يُعد هذا المقال امتدادًا لمقالاتي السابقة حول أداء البنك المركزي اليمني وأهمية "التوازن الدستوري" في إدارة اقتصاد الحرب. يسلط الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجهها الحكومة والبنك المركزي في زمن الحرب، حيث يجد الاقتصاد اليمني نفسه في مواجهة تحديات متعددة نتيجة للصراعات والانقسام السياسي.
بناءً على نتائج أبحاثي المتخصصة في اقتصاديات الحرب، فأن اقتصاد الحكومة الشرعية يعاني متغيرات أقتصادية مثل( دالة الناتج متناقصة، وهناك علاقة عكسية بين الاقتصاد الرسمي واقتصاد الحرب، تشتت وتجزئة الموارد، والاعتماد على التمويل الخارجي). تشير إلى أن زيادة دخل الحكومة الشرعية لا ينتج عنها زيادة في الدخل الكلي بسبب العلاقة العكسية بين التمويل الرسمي والريع الحربي للفصائل، هذا الوضع يؤدي إلى ضعف المنفعة الكلية ويؤثر سلباً على الاقتصاد الكلي، وضعف المرونة والقدرة على الصمود والاستجابة للتحديات.
في هذا السياق، يأتي هذا المقال ليقترح آليات عملية لإنقاذ نقدي واقتصادي في سياق الحرب والانقسام السياسي. على المستوى الداخلي، تشمل هذه الآليات الشفافية الجزئية، إنشاء صندوق وطني مشترك، وإبرام اتفاقيات مع الفصائل. وعلى المستوى الخارجي، يقترح إدارة حوار مرن مع المؤسسات الدولية وتعزيز التنسيق مع التحالف والرباعي.
يهدف هذا المقال إلى وضع لبنة لحوار وطني يقدم حلولًا ملموسة وخطوات عملية قابلة للتطبيق، مع مراعاة الطابع اليمني المعقد والتجارب السابقة العالمية. كما يسعى لجذب صناع القرار والأوساط الاقتصادية للتفكير في حلول ملموسة بدلاً من الاكتفاء بالنقد أو التحليل، سعيًا نحو تحقيق استقرار اقتصادي ومالي يعزز من قدرة اليمن على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.
المحور الأول: التحدي الداخلي :
من خلال نهج "التوازن الدستوري" على قيادة الشرعية أستكمال تكوين المؤسسات الستراتيجية للحرب (مجلس الحرب، حكومة مصغرة، ولجنة اقتصادية، ولجنة برلمانية)، يمكن أن تساعد هذه المؤسسات في حل المشكلة المالية وتعزيز الحوكمة الجيدة وتطبيق الشفافية والمساءلة، وتقوم بالغرض الدستوري نيابة عن السلطات التنفيذية والتشريعية.
معالجة التعارض بين متطلبات الشفافية والحاجة إلى السرية في اقتصاد الحرب، من خلال مجموعة منسجمة من الأليات التي تقوم بها الدول الديمقراطية التي لا تعتمد القوانين العرفية. تشمل الآليات المقترحة (الشفافية الجزئية، إنشاء صندوق وطني مشترك، وإبرام اتفاقيات مع الفصائل)، قابلة للتطبيق بقيادة محافظ البنك المركزي والحكومة.
يمكن للبنك المركزي، بوصفه سلطة سيادية فدرالية مركزية غير تنفيذية تحظى بثقة الجميع، أن يلعب دورًا مهمًا في التنسيق والموثوقية، ويساعد في معالجة كيفية استغلال الموارد المهدورة وتخفيف الضغط الشعبي. وإعادة تعريف دور البنك في إدارة اقتصاد الحرب. يكمن التحدي الأكبر في بناء الثقة بين الفصائل وإقناع المؤسسات الدولية بتعديل نهجها، وهنا يأتي دور الدعم السياسي من التحالف والوساطة الدولية، لتحقيق تقدم ملموس.
1-نهج الشفافية الجزئية:
في بيئة الحرب والانقسام، تصبح الشفافية تحديًا سياسيًا وأمنيًا، لا مجرد التزام قانوني. ومع غياب البرلمان، وتأزم العلاقة مع الفصائل والداعمين، فإن الإفصاح الكامل والتعتيم الكامل قد يكونا ضارًا في هذه البيئة. يكمن الحل في موازنة استراتيجية بين الإفصاح الجزئي والمسؤولية المؤسسية، وبهذا، تستطيع الحكومة الشرعية كسب ثقة الداخل والخارج دون تعريض أمنها المالي للخطر. يمكن للحكومة والبنك المركزي اليمني في عدن اعتماد الآليات التالية:
النشر المحدود: نشر تقارير عامة دورية تحتوي على معلومات إجمالية (مثل إجمالي الإيرادات والنفقات، دون الكشف عن تفاصيل حساسة.
التدقيق المحايد: الاستعانة بشركات تدقيق محايدة داخلية أو دولية، لتقديم تقارير سرية إلى المؤسسات الدولية، تؤكد التزام الحكومة والبنك بالشفافية دون تعريض الأمن الاقتصادي للخطر.
2-إنشاء صندوق وطني مشترك:
تكمن المشكلة في سيطرة فصائل متعددة على إيرادات حيوية مثل الموانئ، الجمارك، والنفط، وتُهدر هذه الموارد أو تُستخدم لتعزيز نفوذ الفصائل بدلاً من دعم الاقتصاد الوطني. هذه الموارد يُمكن أن تغطي ما بين( 50-60)% من العجز المالي، يمكن للبنك المركزي إقناع الفصائل بتوريد الموارد إلى البنك المركزي من خلال إنشاء صندوق وطني مشترك يُدار بشفافية ويضمن توزيعًا عادلًا للإيرادات تديره لجنة محايدة.
أ-هيكلية الصندوق:
تُشكل لجنة إدارية تضم ممثلين عن البنك المركزي، الحكومة الشرعية، المجلس الانتقالي، قوات مأرب، وفصائل أخرى، وتخضع لتدقيق مستقل لضمان الشفافية. تكون اللجنة تحت إشراف طرف محايد موثوق تضمن الشفافية وحيادية القرار وانعدام الثقة.
ب-مصادر الإيرادات:
تُجمع إيرادات الموانئ، الجمارك، وإنتاج النفط والغاز من المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية، وتُحدد نسبة توريد موحدة أو يتفق عليها تراعي الحجم والحاجة من كل فصيل، مع السماح بالاحتفاظ بالنسبة المتبقية لتغطية النفقات المحلية.
ت-دور المحافظ السياسي:
يقود المحافظ فريق عمل مشترك لتنفيذ هذه الآليات بشكل منسق، ويقود جولات حوار مباشرة مع قادة الفصائل، مستخدمًا لغة المصلحة المشتركة: " تخفف السخط الشعبي وحماية الاستقرار الداخلي، يُشرف على تنظيم اجتماعات دورية لضمان استمرار الالتزام، ويقدم ضمانات سياسية بأن الأموال لن تُستخدم لتعزيز نفوذ طرف على حساب آخر.
ث-ضمانات الشفافية والحوافز:
تنشر تقارير شهرية سرية مفصلة للمعنين وتقارير عامة إجمالية علنية، وتُخصص مشاريع تنموية (مثل إصلاح محطات كهرباء أو مستشفيات) في مناطق الفصائل كحافز لتشجيعهم على المشاركة.
ج-النتائج المتوقعة:
في حال توفرت آلية صندوق وطني مشترك تُدار بشفافية يمكن تغطية ما بين 50 إلى 60٪ من فجوة العجز غير المغطى من الإيرادات العامة، الأمر الذي يخفف الضغط على التمويل، مما يتيح صرف المرتبات بانتظام وتحسين الخدمات، تخفيف الضغط الشعبي، مما يعزز استقرار مناطق الفصائل ويقلل من الاحتجاجات، وتعزيز ثقة المجتمع الدولي بالبنك المركزي كمؤسسة قادرة على إدارة الموارد بكفاءة، وزيادة سيطرة وفاعلية الحكومة وقدرتها على إدارة اليوم التالي.
3-إبرام اتفاقيات مُلزمة:
عقد مفاوضات داخلية تنطلق من مبدأ "المصلحة المشتركة" في التفاوض تفضي إلى اتفاقيات المُلزمة تهدف إلى تخفيف الضغط الشعبي وتعزيز استقرار الداخلي، وتقليل مخاطر الاحتجاجات، من خلال إبرام اتفاقيات مكتوبة مع الفصائل، تحدد التزامات كل طرف بتوريد الموارد وتخصيص النفقات، مقابل ضمانات سياسية ودعم مالي للبنك المركزي بوساطة التحالف الذي يمكن أن يلعب دورا إستراتيجي في المفاوضات.
أ-آلية توزيع عادلة وشفافة:
وضع نظام توزيع شفاف للإيرادات يشمل تخصيص الأموال وفق الأولويات، على سبيل المثال ( 60% لصرف مرتبات موظفي القطاع العام خاصة في الصحة والتعليم، 30% للخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء، و10% لمشاريع تنموية صغيرة في مناطق الفصائل)، يُوزع المال بناءً على عدد السكان في كل محافظة، مع تخصيص إضافي للمناطق المتضررة.
ب-التحديات المحتملة:
انعدام الثقة بين الفصائل والحكومة الشرعية، مقاومة الفصائل لتسليم مواردها خوفًا من فقدان النفوذ، يتطلب ضرورة تقديم ضمانات دولية وإشراك طرف ثالث محايد في إدارة الصندوق (البنك المركزي).
الخلاصة:
تُظهر هذه الآليات أن البنك المركزي يمكن أن يتحول من مؤسسة شكلية داخلية وخارجية إلى أداة سيادية فعالة، إذا ما أُعيد تعريف دوره ضمن مؤسسات استراتيجية للحرب، يتطلب توازنًا دستوريًا جديدًا يشرعن تدخله في القرار الاقتصادي، ويُحصّنه من الابتزاز السياسي وماولة إحتوائه، وتراعي خصوصية الواقع اليمني، وتؤسس لمسار انتقالي اقتصادي حقيقي ويؤسّس لتحول وظيفي عميق في هندسة مؤسسات ما بعد الحرب.