شهد الريال اليمني تحسنًا لافتًا خلال الأيام القليلة الماضية، بانخفاض سعر صرف الدولار من نحو 2900 ريال إلى 1600 ريال، في واحدة من أسرع وأعمق موجات التراجع في السوق اليمنية منذ اندلاع الحرب. هذا التراجع المفاجئ، والذي أثار دهشة المراقبين، لا يُفسّر بالعوامل الاقتصادية الكلاسيكية بقدر ما يُعزى إلى تحولات مؤسسية وضغوط سياسية ونقدية متزامنة.
من خلال تحليل القنوات الاقتصادية الرئيسية المحركة لسعر الصرف ( القناة النقدية وخاصة المعروض النقدي، وقناة ميزان المدفوعات وخاصة عجز الاحتياطي النقدي، وقناة عجز الموازنة العامة مع استمرار الفجوة بين الإيرادات والنفقات الحكومية، وانخفاض الدعم الدولي لتمويل الأنفاق العام)، فأن هذا التحسن في سعر الصرف يعزى إلى القناة الرابعة المتمثلة السياسات الحترازية الكلية والاقتصاد المؤسسي. وهي القناة الأهم في التطورات الأخيرة، حيث استعاد البنك المركزي بعضًا من وظائفه الرقابية شملت ( نقل للبنوك، وتفعيل الشبكة الموحدة، وتشديد الرقابة الصارمة على السوق، وتشكيل لجنة مدفوعات) وتفعيل التنسيق المالي والمؤسسي بين الحكومة والقطاع المصرفي.
الحلقة المفرغة بين الطلب الحقيقي والمضاربة:ما حصل من ارتفاع لسعر الصرف في الفترات (2018-2025) لم يكن نتيجة طلب حقيقي فقط، بل نتج عن حلقة مفرغة غذّتها التوقعات السلبية ودخول فاعلين جدد إلى السوق، من شركات ومؤسسات وأفراد، تعاملوا مع الدولار كأصل استثماري وليس لتغطية احتياجات استيرادية فعلية.
بحسب دراستي القياسية، شكّل الطلب الحقيقي على الدولار 36٪ فقط، بينما استحوذ الطلب على المضاربة نحو 64٪ من السوق. هذا الخلل في بنية الطلب الكلي كوّن ما يشبه "كرة ثلج" وكان بمثابة الدواسة أو الوقود الذي مكّن عجلة المضاربة من الاستمرار بالدوران، تدحرجت خلال خمس سبع، نتيجة (قصور السياسة النقدية وعدم السيطرة على الكتلة النقدية، وضعف رقابة البنك المركزي، وتفكك الدورة المالية للدولة، وخروج الموارد والإيرادات الحكومية عن الإطار المؤسسي الرسمي) وهو ما سمح لشركات صرافة وشبكات مالية غير منضبطة بالمضاربة بأموال عامة وخاصة). يجعلنا نجزم أن الهبوط المفاجئ نتيجة اصطدام "كرة الثلج" بجدار السياسات الاحترازية الكلية وضغط دولي مباشرة، أجبرت الفاعلين الداخليين على التراجع، وأعادت شيئًا من الانضباط إلى السوق".
عامل الضغط خارجي والتهديدات دولية:
ترافقت هذه السياسات مع ضغوط خارجية قوية مارستها أطراف دولية، منها:
• التحالف العربي والمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها المجموعة الرباعية المعنية بالملف الاقتصادي اليمني.
• وزارة الخزانة الأميركية التي بعثت برسائل واضحة للحكومة اليمنية والبنك المركزي والبنوك التجارية حول مخاطر الانزلاق إلى قوائم الحظر.
• مخاوف من إدراج بنوك وشركات صرافة وأفراد ضمن قوائم التصنيف المالي، كما حصل سابقًا لبنوك وشركات وأفراد.
• سخط شعبي وحتجاجات وضعت التحالف والحكومة في ضرورة الأستجابة لحزمة من الاصلاحات المؤسسية.
هذه الضغوط خلقت حالة من الهلع والامتثال المفاجئ لدى الفاعلين الداخليين، ودفع المؤسسات والتجار لإعادة تقييم ممارساتهم في السوق، بعد أن باتت شركات الصرافة تواجه مخاطر قانونية ورقابية غير مسبوقة.
عامل المضاربة وحدود تأثير السياسة النقدية:
أن "الحلقة المفرغة" التي غذّت المضاربة على الدولار تكوّنت منذ عام 2018، حين كان متوسط سعر الصرف نحو 545 ريالًا للدولار، ووصلت إلى ذروتها عند 2900 ريال يوليو 2025م، أي أن هذه القفزة الهائلة في سعر الصرف كانت مدفوعة بنسبة 64% من الطلب غير الحقيقي أو المضاربي، هذا يعني أن "الحد الأقصى الذي يمكن للسياسات الاحترازية كبحه هو تلك النسبة من الطلب، والتي شكّلت سقفًا زائفًا للسعر. ومن ثم، فإن أي هبوط مفاجئ في سعر الصرف لا يُمكن أن يتجاوز هذا الهامش ما لم يتم تحسين العوامل الاقتصادية المؤثرة في الطلب الحقيقي."
كما أن "السياسات الاحترازية والرقابية تُشبه المقود الذي يُوجّه عجلة السوق، لكنها وحدها لا تكفي لإيقاف الحلقة المفرغة ما لم تُرفد بتحسّن حقيقي في مؤشرات مثل الإنتاج، والتصدير، والاستثمار، والاستقرار المالي، والثقة العامة، ولكي تستقر كرة الثلج عند حدودها الدنيا، المتوقعة ما بين( 1300-1500) ريال/ دولار، لا بد من ضبط المضاربة من جهة، وتحسين البيئة الاقتصادية التي تغذي الطلب الحقيقي البالغ 36% على العملة من جهة أخرى. فعجلة المضاربة لا تتوقف إلا عندما يستقر السعر وينضب وقودها.
فجوة تمويلية وتحديات إضافية أمام الحكومة:
التحسن المفاجئ في سعر صرف يعد تطورًا إيجابيًا ظاهريًا، إلا أنه يخفي وراءه تحديات مركبة ستواجه الحكومة الشرعية، وعلى رأسها فجوة تمويلية جديدة في ظل اختلال ميزان الموارد والنفقات.
كانت الحكومة تعتمد جزئيًا في تمويل نفقاتها الجارية، وعلى وجه الخصوص صرف المرتبات، على حصيلة بيع الدولار للمستوردين عبر مزادات البنك المركزي بأسعار تقارب 2900 ريال للدولار. ومع الهبوط الحاد في سعر الدولار، فإن الحكومة ستكون مضطرة لبيع كميات أكبر من العملة الصعبة لتغطية نفس الالتزامات السابقة، وهو ما سيضاعف الضغط على احتياطاتها ويكشف ما وصفه بـ"الفجوة النقدية والتمويلية الموروثة".
كما إن انخفاض سعر الصرف سيضع الحكومة أمام تحدٍ مزدوج؛ تغطية فجوة مالية قائمة مسبقًا في الميزانية، وفجوة ناتجة حديثًا عن انخفاض قيمة الموارد المحققة من بيع العملة الأجنبية، أن هذا الواقع يُحتم على الحكومة انتهاج سياسات مالية أكثر فاعلية، خاصة في ما يتعلق بتحسين كفاءة التحصيل الضريبي والجمركي، وتوسيع القاعدة الإيرادية، وتعزيز الحوكمة المالية، بما يساعد على سد الفجوات التمويلية وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار اللازم لاستمرار أداء الحكومة لوظائفها الأساسية تجاه المجتمع.
الكتلة النقدية يضاعف العبء على البنك المركزي:
يمثل تكدّس الكتلة النقدية الكبيرة خارج الجهاز المصرفي تحديًا خطيرًا للبنك المركزي والحكومة معًا، خصوصًا بعد تحسّن سعر الصرف، وارتفاع القيمة الشرائية لها، بات يتطلب لجوء البنك المركزي إلى أدوات مثل "الحقن النقدي وأذون الخزانة"،إلا أن فعاليتها ما تزال محدودة في ظل ضعف الاحتياطيات واتلثقة وغياب شمول مالي فعّال وقنوات مصرفية متماسكة لاستيعاب هذه الكتلة الضخمة وتحويلها إلى أدوات مالية مستدامة. وفي ظل محدودية تلك العوامل النقدية، تظل قدرة البنك المركزي على التحكم في المعروض النقدي مقيدة، وتبقى شركات ومؤسسات الصرافة هي اللاعب الأقوى في السوق.
مخاوف وتحذير من ارتداد محتمل:
رغم هذا التحسن، نحذر وبشدة من أن هذه النتائج قد تكون هشاُ ومؤقتاً إذا لم تُترجم إلى إصلاحات بالمؤشرات الاقتصادية الحقيقية السابقة مع استمرار اصلاحات مؤسسية وهيكلية دائمة. مالم فأن "البالون الذي تم نفخه خلال سبع سنوات من المضاربة قد ينفجر مجددًا إذا عادت الفوضى، ما قد يؤدي إلى ارتدادات مدمرة للاقتصاد الوطني. ما حدث مؤخرًا يُشبه انفجارًا في الطلب المضاربي وليس تعافيًا اقتصاديًا حقيقيًا."