منذ أكثر من عشر سنوات واليمن يتصدّر نشرات الأخبار كواحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم. تقارير المجتمع الدولي الصادرة من الأمم المتحدة إلى المنظمات الحقوقية تواظب على إصدار تحذيراتها وإحاطاتها الدورية بشأن الوضع الإنساني والسياسي والاقتصادي في البلاد ، لكن هذه التقارير وإن تعددت وتكررت فإنها تبدو وكأنها مجرد أزمة عابرة ساكنة تُدوَّن للأرشفة، بل كأن اليمن بات كله مجرّد ملف في أحد رفوف الأمم المتحدة قد طواه النسيان، ولا يفتح إلا عند الحاجة لإصدار بيان أو تجديد ولاية مبعوث جديد.
في الواقع أصبحت هذه الإحاطات نوعًا من الطقوس السياسية يُلقى فيها الخطاب ذاته بكلمات مختلفة وعبارات مطاطية: الدعوة إلى السلام، القلق من الانهيار، الحاجة إلى التمويل الإنساني، أهمية المسار السياسي. وهذه الإحاطات، وإنظهرت للإعلام، إلا أنها لا تغادر تلك القاعات المكيفة التي تُلقى فيها، ولا تلامس حياة الناس على أرض الواقع، الذين يعيشون كل يوم في مواجهة انقطاع الكهرباء، وانهيار العملة، وتوقف الخدمات، وتجاهل الدولة.. لا شيء تحرّك بفعل هذه التقارير، لا ملف الأسرى أُنجز، ولا جبهات الحرب صمتت، ولا الرواتب صُرفت.
وما لم تفعله عشرات الجولات للمبعوث الأممي ومئات الصفحات من تقارير المنظمات فعلته فجأة حركة نسوية انطلقت من الشارع، نساء خرجن يطالبن بأبسط حقوق العيش الكريم فأثرن بركان الجمود وكسرن جدار الصمت وبدأن بتغيير المعادلة.. هذه الاحتجاجات النسوية التي خرجت من عدن وامتدت لمناطق أخرى لم تكن مجرد مظاهرات عابرة بل كانت إعلانًا بأن الناس لم يعودوا ينتظرون حلاً من الخارج، بل قرروا أن يصنعوه بأنفسهم.
وكان اللافت أن هذه الحركة الشعبية النسوية بالدرجة الأولى بدأت تُحدث فارقًا ملموسًا في واقع الحياة العامة، بدأت الكهرباء تعود – ولو جزئيًا – في بعض الأحياء، شهدت العملة تحسنًا طفيفًا، عاد الطلاب إلى مقاعد الدراسة، وبدأ الحديث عن صرف الرواتب يعود إلى الواجهة. كل هذه التحولات لم تأتِ بعد إحاطة من مجلس الأمن، ولا بعد اجتماع رباعي أو خماسي، ولا بعد قلق المبعوث الأممي، بل جاءت بعدما علت أصوات النساء اليمنيات في شوارع المدن الرئيسية، كسرن حاجز الخوف والصمت، وفرضن معادلة حضور الناس على خارطة القرار السياسي.
هذا يقودنا إلى تساؤل عميق: من الذي يُحرّك الأحداث فعلًا؟ هل هي الصحافة الدولية بتقاريرها الكئيبة الرتيبة المتكررة؟ هل هو المبعوث الأممي بإحاطاته التي لم تعد تُحدث أثرًا؟ أم أن التغيير الحقيقي يبدأ حين يقرر الناس أن يقولوا كفى؟
إن تغطية الإعلام الدولي لليمن، رغم ضرورتها، باتت في كثير من الأحيان تُعيد إنتاج صورة واحدة للبلد: بلد منكوب، جائع، محطم، ضحية دائمة. وفي خضم هذا التكرار، تُغيب الحقيقة الأهم: أن اليمنيين ليسوا فقط ضحايا، بل أيضًا فاعلون، قادرون على الاحتجاج، على الصمود، على تغيير المعادلات بأبسط الأدوات: أصواتهم، أجسادهم، وحدتهم في مواجهة التجاهل.
إن الإحاطات التي تتكرر كل شهرين، والتقارير التي تُجمّل فشل المجتمع الدولي بعبارات "نشعر بالقلق"، لم تعد تواكب الواقع، ولم تعد محط اهتمام المواطن، بل باتت عبئًا على من يقرأها ويدوّن نصها، المأساة الحقيقية ليست فقط في الحرب والانهيار، بل في العجز المزمن للمجتمع الدولي، وفي إحاطاته التي تعاني من انفصام حقيقي عن أرض الواقع.
وإذا كان اليمنيون قد ظلوا لعقد من الزمن يُنتظرون حلاً يأتي من الخارج، فإن اللحظة الحالية تشير إلى ما هو أبعد من ذلك: الحلول تبدأ من الشارع، من إحساس الشعب بمعاناته، من النساء اللاتي خرجن دون تنظيم سياسي أو دعم أو توجيه، بل فقط بدافع الرغبة في حياة كريمة.
وجدير بالمجتمع الدولي أن يفهم الآن أن واقع اليمن لا يمكن تلخيصه في جملة "أسوأ أزمة إنسانية"، بل هو بلد حيّ، نابض بالحياة ومليء بالتناقضات والمقاومة والانفعال الذي يبدوا صامتا ثم ينفجر في وجه الفساد والاستبداد، وإذا تم تجاهل صوت الناس، فإن أي إحاطة قادمة ستكون مجرد ورقة أخرى تُضاف إلى أرشيف أزمة مزمنة عجز المجتمع الدولي عن حلّها فعلاً.