/منصور الصبيحي
أدارت أوربا ظهرها للعرب أمام إسرائيل دهرًا، وفجأة استفاقت على وقع الصراخ والألم والأخيرة تحرق وتذبح بالقنابل في ما يقارب إثنين مليون غزي على مرأى ومسمع العالم، وباتساقٍ مع ضم وتغوّل في أراضٍ جديدة، وبات ما يفصلها عن تركيا ومضيق البسفور سوى أجزاء من سوريا، ولتغادر تلك مربع الصمت على عجل، تنادي وتتوعد للاعتراف على الواقع الافتراضي بدولة لفلسطين يسكنها الجوع والمجاعة ويقتات شعبها البارود والرصاص.
كونها أمام التاريخ المسؤول الأول والأخير عن ما لحقها وشعوب عربية أخرى من ويلاتٍ ومآسٍ، لتحاول اليوم من الباب الذي انتهت إليه تهوى الصلاح والتقوى، البحث عن مغفرة تحسّن صورتها المشوهة وتغطي بها على ماضيها الاستعماري المظلم؛ فلطالما أسرفت في مدح وتبجيل إسرائيل كثيرًا، مدعية بأنّها تمثّل نموذج راقٍ في المنطقة إمتدادًا لمشروع يعكس مفاهيم الديمقراطية الغربية وينشر قيمها السامية فيما حوله، وما فِتأت وهي تصر على متابعة ذات النهج حتى انكشفّ أولها عن آخرها، ومن أطرتهُ واكسبتهُ على عقود من الزمن لقب الحمام حاملًا رسالة المحبة والسلام إلى الشرق، فضحها وظهر في صورة غول يكسر قواعد اللعبة مجتمعة باستمرار وبلا توقف، وكأنّه يبادلها نفس الشعور، وبدوره يسقيها من نفس الكأس، وليكسبها الخزي والعار إلى يوم القيامة.
فما موقفٍ على مسيرتها يحسب لها حاولت به ترميم جزءًا من عبثها وما خرّبته يداها في المنطقة، سوى أنها دائما تقول ما قالته لبيبة ( أمريكا ) مع أن الأخيرة لا تعترف بمقامها ولا تنسجم معها إلا من باب الحفاظ على مصالحها وما يتعلق بمستقبلها ويقيها السقوط من سدة القرار العالمي، وبغير هذا الشرط لن تلقي لها بالًا ولن تعيرها وزنًا؛ فالموثّق عنها إلى اليوم" ٨٣ قرار استخدمت فيها حق النقض ( الفيتو ) خمسون منها انحازت إلى جانب إسرائيل، مقابل قرار واحد يتيم امتنعت فيه عن التصويت وتركته يمر، وكان ذلك في الأيام الأخيرة لعهد باراك أوباما يدين فيها ممارسات المستوطنين ويطالب بوقفها.
أن تأتي متأخرًا خير من لا تأتي... فرب مواضع تتطلب يُعكس فيها المثل بلا حذفٍ أو تعديل، وذلك عندما يكون الخلاف يدور على مسألة معينة، وجهة ما مؤثّرة في مفاتيح الحل تقف على بعد مسافة محددة تمكّنها من المبادرة والإدلى بدلوها، ولكنها تتمادى ولم تتشرّف بالحضور إلّا في وقت متأخر والأمور تكاد تكون قد حسمت في اتجاه معلوم، لتُحسب بين المتواطئ والعميل، وكل ما قامت به من لا أقل ولا أكثر من مجرّد دعاية غرضها منها تجنّب الشبهة وما قد يعرّضها للوم وللحرج، لنقول فيها على نحو من السخرية والمبالغة: أن لا تأتي كان خير من أن تأتي، وهذا الذي صار تقريبًا ينطبق على أوروبا التي أخيرًا فاجأت الجميع بتغيّر إستراتيجية خطابها من إسرائيل على حيا، إذ ومازلت منبطحة حذرة يتملّكها الخوف تفتقر للشجاعة والآلية المناسبة لتسجيل الدخول وفتح باب المساءلة لها، ولتزامن تسجيل مواقفها في نصرة قضايا شعب تعلم كل العلم بأنّه مسلوب الإرادة ويواجه بسببها من سبعون عام في وطنه أبشع صنوف القهر والإذلال، وإلى أن صار حاليًا يتعرّض للإبادة والتطهير العرقي بمناسبات محددة، ولم ترتجلها وتندفع تمارس حيالها الأسلوب الذي مارسته أمام إنتهاكات متفرّقة وقعت في بعض أماكن من المعمورة، أحدثها ما جرى لأوكرانيا من قبل روسيا. فالذي يحصل أنّ جميع دولها باستثناء دولة إلى ثلاث دول ملتزمة بتوريد السلاح لجيشها، ولم تكلف نفسها وتنزل عند مستوى خطورة الحدث وبشاعة الموقف، ولو فقط بإغلاق جزئي للباب ذاته كي يطمأن إليها الجميع، ويشعر أن ما تقوله وتتوعد به من أفعال ستقوم بها في الأشهر القليلة القادمة، تنبع من إرادة صلبة وحقيقية وتعبر وتنطلق عن نوايا صادقة ومن المبادئ والقيم التي ترفعها.
خلاصة القول... وبحسب ما نشاهده يجري من أحداث مفجعة ومؤلمة أمامنا وما يقابلها من تمادٍ وتخبط عربيًا وإسلاميًا، وتحنيط للضمير العالمي وبعدم قدرته تسجيل ولو موقف واحد يزيح عنه الصورة النمطية التي اكتسبها على عقود خلت من التوهان والتبلّد: هل بدأت بالفعل تشعر أوروبا بالذنب وباتت تخشى على نفسها من إسرائيل والخطر الذي قد يداهمها يومًا من الشرق بالتحديد تركيا وقبرص، لتتدارك الأمر قبل فوات الأوان تنقذ ما يمكن إنقاذه محاولة إفشال مخطط تصفية القضية الفلسطينية استنادا لتصفية حماس.. أم أن المسألة من قِبلها لا تعد كونها مناورة من مناوراتها المعروفة وتتعمد فيها دائمًا ذر الرماد على العيون، وبهدف التملّص من العبء التاريخي الملقى على عاتقها وتصدّيره على طرفٍ آخر!؟. هذا ما سنعرفه في الأيام القادمة فهي الكفيلة ولا غير سواها بكشفه لنا.