عادةً ما يُنظر إلى الموارد على أنها دعامة لتعزيز سيادة الدولة وتنمية الاقتصاد. غير أن هذه العلاقة تنقلب رأسًا على عقب في الدول الهشة، خاصة عندما تفتقر الحكومة إلى أدوات الجباية المركزية، وتعيش في ظل انقسام سياسي وعسكري عميق. تمثل مناطق الحكومة الشرعية نموذجًا صارخًا لهذه الحالة، خصوصًا بعد وقف الحوثيين لتصدير النفط في المناطق الخاضعة للحكومة الشرعية في أواخر عام 2022م ، ما اعتُبر آنذاك ضربة اقتصادية موجعة استهدفت حرمان الحكومة من النقد الأجنبي، وتقويض قدرتها على دفع الرواتب وتمويل الموازنة. وبدا هذا الإجراء، في الظاهر، تصعيدًا اقتصاديًا خطيرًا ضمن أدوات الحرب.
غير أن هذا التفسير، رغم وجاهته الظاهرية، يُخفي خلفه تناقضًا بنيويًا صامتًا وصادماً داخل منظومة الحكومة الشرعية والتحالف. فالحقيقة التي يُراد تجاهلها أو تأجيلها هي أن استئناف تصدير النفط في ظل ذلك الوضع القائم لم يكن ليقوّي الحكومة، بل ليقوّي مراكز النفوذ المتنازعة داخلها، ويفجّر صراعًا داخليًا محتمًا على الريع.
"في الدول الهشة، لا يؤدي تدفق الموارد بالضرورة إلى تعزيز الاستقرار،
بل قد يكون محفزًا للصراع الداخلي"
في هذا المقال نتناول أثر وقف جماعة الحوثيين لتصدير النفط اليمني على الحكومة الشرعية، ليس من منظور الحرمان من النقد الأجنبي فحسب، بل من زاوية تجنب تفجر صراع داخلي بين الفصائل المسيطرة على مناطق الإنتاج. كما نقدّم فرضية "التغذية العكسية السلبية".
أولاً: الاقتصاد المجزأ للحكومة ومفارقة الموارد:
يعاني الاقتصاد الحكومي في مناطق الشرعية من حالة تجزئة مؤسسية ووظيفية معاً، ينعكس في تجزءة دالة الدخل الكلي، إذ لا توجد مركزية في الجباية، ولا سيطرة حقيقية على دورة الإيرادات. فكل مكون مسلح يدير مناطقه وموارده بشكل شبه مستقل، ويُعاد توزيع أي دعم خارجي من خلال قنوات فرعية غير خاضعة للدولة، غالبًا من قبل فاعلين مدعومين خارجيًا. وتُظهر البيانات والوقائع أن الريع الحربي للفصائل وخاصة ريع العقود الحكومية المصدر الأكبر لتمويل ذاتها، بعد ريع التهريب، مستغلة عدم المساءلة والنفوذ والمحاصصة. شكلة عوامل ضعف الاقتصاد بالمتغيرات التالية:
1) الازدواج: يمثل ضعف مركزية النفوذ وتعدد مراكز نفوذ الفصائل العسكرية والسياسية داخل الشرعية على إضاعاف مركزية القرار ومصداقية المؤسسات.
2) التجزئة: ينعكس ضعف السيطرة وتشتت الموارد، وعدم السيطرة على الدورة النقدية والمالية، على أعاقة قدرة الحكومة على تنفيذ القانون وتحصيل الموارد وتقديم الخدمات.
3) المرونة: يؤثر الاعتماد المفرط على المساعدات والدعم الخارجي على قدرة الحكومة على الأستجابة وسرعة تنفيذ الأولويات الحربية والضرورية والحدّ من قدرتها على بناء مؤسسات مستقلة ومستدامة.
4) الحوكمة: أدى ضعف تنمية الكوادر والبيروقراطية والمحاصصة، والعلاقة الزبائنية، والهجرة القسرية والنزوح، إلى فقدان كثير من الكفاءات، مما زاد من ضعف الأداء المؤسسي.
5) المنفعة الحدية: يمثل كل ماسبق بلاضافة إلى الدعم الخارجي الذي يُحوّل غالبًا عبر قنوات إنسانية أو أمنية موازية، يقوض المنفعة الحدية للمواطن والعقد الاجتماعي والولاء للدولة وينعكس على المنفعة الكلية للدولة لصالح الفصائل.
في هذا السياق، يمكن توصيف العلاقة بين الدخل الكلي (سواء من صادرات النفط أو الدعم الخارجي) وبين الناتج الحكومي الفعلي (المتاح للدولة لتقديم الخدمات) على النحو التالي:
"كلما زاد الدخل الكلي، لا ينعكس ذلك بزيادة في الناتج الحكومي، بل قد ينخفض فعليًا، نتيجة استحواذ الفصائل وتضخم كلفة الانقسام"
اقتصاديًا، تُعرف هذه الحالة النادرة بظاهرة "التغذية العكسية السلبية"، حيث تكون مرونة الدولة تجاه الموارد إما صفرية أو سالبة، هذه المتغيرات الديناميكية لظاهرة "التغذية العكسية السلبية" لاقتصاد الحكومة الشرعية تعنى:
" أن أي الزيادة في الناتج أو الدعم الكلي لا تعني بالضرورة زيادة في الناتج الحكومي (YG)، بل قد تؤدي إلى تآكلها بفعل تنامي الفصائل.
ثانياً: النموذج الديناميكي للعجز المؤسسي:
تُقدَّم العلاقة الدالية كنموذج تقريبي لوصف أثر التمويل الخارجي والانقسام على الناتج الحكومي في ظل المتغيرات السابقة العلاقة التالية:
"كلما زاد التمويل الخارجي دون توطين المؤسسات، كلما زادت درجة التجزئة، وتدهور الناتج الكلي، وتآكلت فعالية الحكومة"
ثالثاً: وقف التصدير: منفعة سياسية غير مقصودة؟
ظاهريًا، يُفهم وقف تصدير النفط من قبل الحوثيين على أنه إضعاف للحكومة الشرعية وحرمانها من النقد الأجنبي، غير أن هذا التفسير يغفل عن التناقض البنيوي داخل مناطق الحكومة، وخلافًا للرؤية السائدة، يمكن القول إن وقف تصدير النفط قد جنّب الحكومة نزاعًا داخليًا على العائدات، لم تكن تملك أدوات إدارته. فالمناطق المنتجة تخضع لتشكيلات عسكرية متعددة، تتحكم بها مثل: (مارب، شبوة، وحضرموت).
يرى كل فصيل في عائدات النفط حقًا خاصًا، ما يجعل توزيع الإيرادات معضلة سياسية وأمنية خطيرة، وفي ظل غياب آلية موحدة للجباية والتوزيع العادل للثروة، فأن استئناف التصدير دون بنية مركزية قوية سيفتح شهية المطالبة بالحصص، وقد يُعيد إنتاج صراع داخلي على الموارد يتجاوز ضرر وقف التصدير نفسه.
رابعًا: مفارقة المرونة في اقتصاد الحربك
يظهر أن الاقتصاد الحوثي يتسم بمرونة موجبة فالدخل الكلي يمثل حاصل (+) جمع (الموارد الرسمية والريع الحربي معا) بعلاقة طردية تُترجم إلى سلطة موارد مركزية لدعم المجهود الحرب، ويدار بسلطة مركزية من قبل الحوثيين، ويشكل اقتصاد حرب دولة "شديد المركزي".
بينما يظهر أن اقتصاد الحكومة يعاني من مرونة سالبة أو صفرية فالدخل الكلي يمثل حاصل الطرح(-) بين (الموارد الرسمية والريع الحربي)، وكل زيادة تُغذي التجزئة المؤسسية.
خامساً: مفارقة الدولة الهشة:
زيادة الموارد قد تُفجّر صراع داخل الحكومة الشرعية، تكمن المفارقة في أن الموارد، التي يُفترض أن تكون عامل استقرار، تتحول في الحكومة الهشة إلى وقود للصراع الداخلي، إذا لم تسبقها مأسسة الجباية، ووحدة القرار، والرقابة على التوزيع ومحاربة الريع الخاص للفصائل.
"إن وقف التصدير "رغم ضرره المالي" أوقف نزيفًا سياسيًا محتملًا،
وأجّل صراعًا داخليًا كان لينفجر عند أول عملية بيع وتصدير"
سادساً: وقف تصدير النفط: هل أوقف النزيف السياسي؟
النفط، الذي مُنع تصديره، لم يُمنع إنتاجه داخليًا، حيث من الممكن تكريره محليًا واستُخدمه لتغطية السوق المحلية وتوليد الكهرباء، وتوفير قيمة ما يقرب من 2 مليار دولار قيمة ما تستورد الحكومة سنويًا من الوقود والمشتقات النفطية الذي كان السبب الرئيسي لعجز ميزان المدفوعات ونزيف العملة المحلية، أن عجز حكومة الشرعية عن إعادة تشغيل المصافي أو حتى استيراد مصافٍ صغيرة حديثة يمكن أن تسد الفجوة يفتح الباب لقراءة أعمق: هل كان وقف التصدير حلاً مرحليًا ذكيًا لتجميد صراع الفصائل؟ مستغلا بذكاء الشماعة الحوثية أم أنه تأجيل لأزمة توزيع الموارد في جسد دولة مفككة؟ في كلتا الحالتين، يفرض الواقع ضرورة إنشاء صندوق وطني مشترك للموارد السيادية، بإشراف مركزي وآليات توافقية تضمن العدالة، وتُهيئ لعودة مؤسسات الدولة وتوزيع عادل للثروة، كأحد المرتكزات الهيكلية لإعادة بناء الدولة وأصلاح الخلل البنيوي العميق داخل الحكومة الشرعية سياسيًا واقتصاديًا، الأمر الذي عطّل توظيف النفط كأداة وطنية لتحقيق الاستقرار والاكتفاء الذاتي.
الخلاصة:
يؤكد هذا التحليل فرضية "مفارقة الموارد في الدولة الهشة"، وأن منع التصدير لم يكن مجرد ضربة اقتصادية من الحوثيين، بل كشف هشاشة البنية السياسية والاقتصادية في مناطق الحكومة الشرعية، ووجود "منافع خفية" في كبح جماح صراع النفوذ داخل معسكر الحكومة الشرعية، لا سيما في مناطق كشبوة وحضرموت ومارب، حيث يتقاسم النفوذ قوات وأطراف متعددة. وتشير المعطيات إلى أن بعض هذه القوى فضّلت توقف التصدير لما يحققه من توازن داخلي مؤقت، بدلًا من تفجر الصراع على عوائد لم تكن ستوزع بعدالة.
توصيات:
• لا ينبغي استئناف تصدير النفط إلا بعد إعادة بناء مؤسسات الجباية والتوزيع تحت سلطة مركزية موحدة، واتفاق سياسي يسبق ذلك، وإنشاء صندوق وطني مشترك". لتوحيد القنوات المالية والرقابة على الموارد.
• يجب ربط الدعم الخارجي بأداء الدولة لا الفصائل، وتحفيز إصلاحات مالية وسياسية تضمن مركزية القرار لا مركزية الفصائل. وتحويل التمويلات الخارجية إلى أدوات لبناء مركزية حقيقية لدولة لا لهدمها.
• قبل التفكير في تحصيل الموارد، يجب التفكير عميقاً في من يملك أدوات إدارتها، ومن يستفيد منها.
د. يوسف شمسان المقطري
القاهرة