تمطر السماء في عدن، فتمتلئ الشوارع بالمياه المتسخه، وتتكدّس السيارات كأنها حطام على ضفاف نهرٍ جارف، وتتحول البيوت إلى قوارب مثقوبة لا تعرف أين ترسو. يخرج الناس إلى الشوارع بوجوه تكسوها الدهشة واليأس معاً، يحملون أطفالهم على الأكتاف، يحاولون النجاة من السيول كأنهم غرباء في مدينة لم تعد قادرة على احتضانهم. مشهد يتكرر ل٨ سنوات، يثير الغضب أكثر مما يثير الحزن، ويُشعر أهل عدن بأن مدينتهم تُعاقب على جرم لم ترتكبه، وأنها تُترك وحدها لتدفع ثمن صراعات لم تختَرها.
منذ أن انتقلت ملفات عدن إلى أيدي "التحالف العربي"، ظلّت المدينة ملعباً لتجارب سياسية فاشلة: حكومات تتغير كما تتغير أسماء الشوارع، مجالس تُنشأ ثم تتلاشى، صراعات بين المجلس الإنتقالي و الميسري والجبواني باذرع أجنبية، اقتحام معاشيق، طرد بن دغر وتنصيب معين، كل ذلك لم يكن سوى مشاهد متكررة من مسرحية عبثية بطلها الوحيد هو الإقصاء وتصفية الحسابات. وبينما يتسابق المتصارعون على الكراسي، ظل المواطن العدني أسيراً للفيضانات والسيول، يموت كل عام في حفرة أو تحت جدار منهار، دون أن يلتفت أحد إلى أن هذه الأرواح ليست أرقاماً في نشرة أخبار، بل حياة كاملة تُغرقها المياه.
تقول أم عدنية فقدت طفلها في فيضان العام الماضي: "كنتُ أحمله بيدي، لكن الماء خطفه مني كما تخطف الريح ورقةً من شجرة... بحثتُ عنه بين الناس، في المستشفى، عند الشرطة، لكني لم أجده إلا بعد يومين، جثة صغيرة عالقة بين صخور الوادي. من يعيد لي طفلي؟"
زاد الطين بِلّة أن سياسات البناء العشوائي أكلت جسد المدينة بلا رحمة، والبنية التحتية التي كان يمكن أن تكون طوق نجاة، بُنيت على عجل كرقعة بالية فوق جرح غائر. وفي كل مرة يعيد المطر كشف الحقيقة، ويعرّي سوءات القيادات، يهرعون إلى لعبة الإلهاء: انهيار العملة، أزمات الكهرباء والماء، ارتفاع الأسعار... أدوات تنسي المواطن مآسي الأمس بجراح جديدة في الحاضر. وهكذا يعيش الناس بذاكرة مثقوبة، لا تحفظ إلا تفاصيل اللقمة اليومية، بينما تتراكم عشر سنوات من الخذلان بلا حساب.
لكن عدن ليست وحدها. في الشمال، مدينة تعز تواجه عذاباً من نوع آخر: أزمة ماء تجاوزت العقد من الزمن. عشر سنوات كاملة والعطش يخنق الناس، والسقّاءون يجوبون الأزقة كأنهم يسيرون في صحراء بلا نهاية. لم تُطرح القضية إلا مؤخراً، وكأن عشر سنوات من المعاناة لم تكن كافية لتدق ناقوس الخطر.
يحكي رجل مسن من تعز: "كل صباح أحمل جالون الماء على ظهري وأمشي نصف ساعة لأملأه، ثم أعود وأنا ألهث. صرتُ أعد خطواتي كما لو أني أحصي ما تبقى لي من عمر. في بيتنا لا يكفي الماء للغسل أو التنظيف، بالكاد نشرب... هل يُعقل أننا في القرن الحادي والعشرين وما زلنا نعيش مثل حياة البدو في الصحراء؟"
هناك، أيضاً، قيادات تتعامل مع الحرب كغنيمة شخصية، تحتفي بالدمار كما لو أنه إنجاز، تؤمّن عائلاتها بعيداً عن الجحيم، وتتصوّر وسط الأنقاض كأنها تعيش لحظة نصر تاريخي. إعلام مأجور يلمّعهم ويغطي على انتهاكاتهم، حتى صارت أزمة الماء في تعز مجرد "ملف ثانوي"، كما غدت كارثة الأمطار في عدن خبراً موسمياً يُستدعى وقت الهطول ثم يُنسى مع أول شمس جديدة.
ما يجمع عدن وتعز ليس فقط الألم، بل خيانة مماثلة: خيانة السلطة والقيادات والإعلام. مدينة تُغرقها المياه، وأخرى يُذلها العطش، وبينهما مواطن يواجه جحيم العيش بلا سند، بلا صوت، وبلا أفق.
وكلما تكرر المشهد وعادت الأزمات لتكشف سوءات القيادات، وجدوا ما يُنسي الناس: انهيار العملة وهبوط الصرف، ارتفاع الأسعار، أزمات الكهرباء والماء... وكأن المواطن العادي قد صار ذاكرة مثقوبة، لا تحفظ إلا لقمة يومها، ولا تعود لتتذكر إهانات عشر سنوات من الانتهاك والخذلان
عدن لا تحتاج إلى خطابات جوفاء، كما أن تعز لا تحتاج إلى شعارات عن الصمود. كلتاهما تحتاج إلى من يملك ضميراً يرى في السيول دموع الناس لا مجرد مياه راكدة، وفي العطش صرخة حياة لا مجرد أزمة خدمية. لكن، في ظل هذا الخراب العام، يظل السؤال معلّقاً بلا جواب: من يسمع صرخة المدن قبل أن تُمحى معالمها تحت طمي الإهمال وغبار العطش؟