آخر تحديث :الأحد-07 ديسمبر 2025-10:58ص

الجنوب اليمني... ذاكرة الجراح وأمل الدولة

السبت - 23 أغسطس 2025 - الساعة 01:22 م
أ.د مهدي دبان

بقلم: أ.د مهدي دبان
- ارشيف الكاتب


مر الجنوب اليمني بمنعطفات حادة ومراحل مفصلية، شكلت ملامح عقليته السياسية والإدارية، وتركت في وجدانه الوطني دروسا لا تُنسى. ولأن الشعوب تتكون عقولها الجمعية من مزيج الألم والأمل، من التجربة والخيبة، فإن قراءة مسار الجنوب منذ ما قبل الاستقلال وحتى اللحظة تكشف عن عقلية صاغتها النضالات كما صاغتها الجراح.

إنه الجنوب اليمني... ذاكرة الجراح وأمل الدولة. مزيج من الخسارات والانبعاث، من الطموح والخذلان، من الحنين إلى كيان ماض والسعي المحموم لبناء مستقبل يستحقه.

قبل الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، كان الجنوب عبارة عن مجموعة من السلطنات والمشيخات المتناثرة، ترزح تحت نير الحماية البريطانية، وكل كيان صغير يتقوقع في حدوده الضيقة ويخشى الآخر. ومع ذلك، وُلد الحلم في صدور الأحرار، وبدأت تتشكل نواة الوعي الجمعي، عبر الحركات الوطنية والمثقفين والنقابيين الذين حملوا شعار التحرر والتوحيد، وتطلعوا إلى كيان سياسي يلم شتات الجنوب ويوحد صوته ويصون كرامته.

جاء يوم الاستقلال المجيد، وخرج المستعمر، لكن التحدي الأكبر بدأ بعده. تأسست جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ثم تحولت لاحقا إلى اليمن الديمقراطية الشعبية، وتبنت النظام الاشتراكي المتشدد. لأول مرة عرف الجنوب مؤسسات الدولة، وتم إلغاء السلطنات وتأميم الممتلكات وبناء جيش موحد وهيكلة الإدارة. لكن تلك الدولة وُلدت وسط تناحر داخلي حاد بين رفاق الأمس، وصراعات فكرية ومناطقية قاسية، وكان يغيب عنها التنوع في الكفاءات، وتنعدم فيها الحريات السياسية، فلا صوت يعلو فوق صوت الحزب، ولا مكان للرأي المختلف أو الشريك الوطني. كان أشد محطاتها دموية أحداث يناير 1986، التي تركت ندبة عميقة في الوعي الجنوبي، وما زال صداها حاضرا في كل محاولة لبناء الثقة.

في تلك الحقبة، كانت العقلية الجنوبية مشبعة بالروح الثورية، لكنها مثقلة بأوهام الطهر الأيديولوجي. وُجدت إدارة، لكنها لم تتسع للاختلاف. بُنيت مؤسسات، لكن تم ربطها بالحزب لا بالوطن. وكان الجنوب في ظاهره صلبا ومتماسكا، وفي باطنه هشا ومتوجسا من ذاته.

حين دخل الجنوب في وحدة مع الشمال عام 1990، فعل ذلك بأمل كبير في شراكة ندية، لكن الصدمة كانت مؤلمة. اصطدمت عقليته التي اعتادت على الانضباط والحس المؤسسي، بعقلية تعتمد على الولاءات، وتخشى الكفاءة، وتبتلع الشريك لا تساويه. لم تكن حرب 1994 مجرد معركة عسكرية، بل لحظة انفصال روحي بين شريكين لم يتفقا يوما، لكنها عمقت في نفوس الجنوبيين شعورا بالخذلان، وأيقظت فيهم الحنين إلى تجربة وإن شابها القصور، فقد كانت تحمل لهم كرامة وهيبة وانتماء.

منذ ذلك الحين، بدأ الجنوب في إعادة تشكيل وعيه، من الرفض الصامت إلى الغضب العلني، وخرج الناس إلى الشوارع، وارتفعت الأصوات تنادي بالحقوق، ثم بالهوية، ثم بالاستقلال. جاءت حرب 2015، فانسحبت الدولة من الجنوب، ووجد الجنوبيون أنفسهم أمام فراغ كبير، فأنشأوا قواهم الأمنية والعسكرية، ونشأ المجلس الانتقالي الجنوبي، وبدأت مرحلة جديدة من محاولة الإمساك بالقرار وإدارة الأرض.

غير أن التحدي الأهم لم يكن في السيطرة الأمنية، بل في تشكيل عقلية جديدة قادرة على تجاوز الصراعات الماضية، عقلية تعترف بالاختلاف وتبني ولا تهدم، تُدير لا تُقصي، وتستوعب الجميع لا فئة بعينها. الجنوب اليوم لا يفتقر إلى الرجال ولا الكفاءات، لكنه بحاجة ماسة إلى روح وطنية تتجاوز الجغرافيا والولاء الضيق، وتنهض بمشروع جامع يُشبه كل الجنوبيين، لا يعيد إنتاج مآسي الأمس، ولا يسمح بتكرار إخفاقاته.

لم يكن الجنوب يوما بلا مشروع، لكنه كان دائما في صراع مع نفسه، بين الحنين إلى ماض مثقل بالألم، والتطلع إلى مستقبل مشرق يصنعه أبناؤه. واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يقف الجنوب أمام فرصة ثمينة ليكون دولة عادلة، لا مجرد رد فعل على ظلم، بل كيانا يستمد شرعيته من الناس، وقيمته من العدالة، وقوته من النظام، ويكتب تجربة جديدة يُفاخر بها لا يتوجس منها.