آخر تحديث :الجمعة-17 أكتوبر 2025-10:11م

وتمضي الأيام

السبت - 06 سبتمبر 2025 - الساعة 01:04 م
حسين سالم العولقي

بقلم: حسين سالم العولقي
- ارشيف الكاتب


وتمضي الأيام

ركبت سيارتي “مبروكة” في صباحٍ باكر والحق أنّها ليست مبروكة إلا بالاسم، فهي في الحقيقة تعيسة، أطلقتُ عليها هذا الاسم لجلب الحظ فقط لكن ما من مشوارٍ يمر دون أن تفاجئني بمصيبة جديدة مرة عطل في المحرك، وأخرى البطارية، وتارة السلف، وأحياناً ينفذ الوقود في منتصف الطريق

لا أحد يعلم إن كنت سأصل إلى برّ الأمان أم ستخذلني في مفترق الطرق ومع ذلك، أمضي متوكلاً على الله، مؤمناً أن “الرزق يحب الخفية”

ولأن الإنسان لا يعيش وحده، والطريق الطويل يحتاج رفقة فقد وجدتُ حيلة ماكرة لجر الأصدقاء إلى هذه الرحلة ألمح لهم أن الركوب معي مجاني، بلا أجرة ولا تكاليف، لكنهم يدركون أن الثمن الحقيقي هو دفع السيارة عند أول عطل لذلك يحاولون الابتعاد قدر استطاعتهم، إلا أولئك البؤساء الذين لا يجدون بداً من الركوب، أو المضطرين الذين يرون في المجازفة طعماً مختلفاً ليومهم الكئيب

وما أن أصل السوق بسلام يبدأ حينها فصل جديد: كيف نوفّر ما يسد رمق البيت؟ كيف نشتري القات لنخفّف من وطأة الهموم؟ وكيف نعود من دون أن تنهار “مبروكة” ومع غياب الرواتب المنتظمة وشحّ الدخل، نتقن فن الإقناع غداً أجمل… لعلّ الأحوال تتحسن

يترجل الركاب لتجهيز أغراضهم،بينما أجد نفسي وحيداً لبرهة قصيرة أتلفت يمنة ويسرة ثم اتجهة الى اقرب كفتيريا ارتشف كوب شاي واتصفح اخبار من جريدة يومية وارسم الخطط متسائلاً كم معي من النقود ؟ ما الذي يمكنني شراؤه؟ وأي قائمة من الطلبات سأضطر إلى تأجيلها لليوم التالي ! وانا على هذه الحال ، لفت انتباهي رجل بائس ييجلس امامي على كرسي بلاستيك وامامة طاولة ملطخة ببقع القهوة والدخان ملابسه رثة، وجهه شاحب، وحالته يرثى لها لكنه لم يكن رجلاً عادياً… كان يوماً ما “إمبراطوراً” في زمن النظام السابق لااحد كان يجرؤ الوقوف امام مكتبة ! عرفته فوراً: رجل درس الماركسية والبلشفية وتغنّى بها أكثر من لينين وستالين، مارس السلطة بتكبر وتجبر، لم يترك بصمة حسنة تُذكر، بل لم يستغل منصبه إلا في تعقيد معاملات الناس وتصيد أخطائهم ولم يكن له موقف مشرّف قط، سوى أنه كان بارعاً في صناعة المتاعب للآخرين والآن، ها هو يقف منكسرَ الجناح، يخفي فشله وسط غبار دخان السجائر،

تأملتُ ملامحه المرهقة، وقلت في نفسي: ما أقسى أن يتحول من كان بالأمس جلاداً إلى ضحية كبريائة وغروره! عندها أيقنت أن السلطة زائلة، والأنظمة لا تدوم، وأن أجمل إرث يتركه الإنسان خلفه هو عمله الصالح ويده الممدودة للآخرين إذا كنتَ موظفاً، فساعد الناس بما تستطيع إن كنتَ مسؤولاً، فاخدم من حولك قبل أن تفكر بنفسك لا تصنع لنفسك تاريخاً أسود يلعنك فيه الناس بعد زوال منصبك، بل ازرع أثراً طيباً يذكرك به الناس حين تتغير الأنظمة وتتهاوى العروش فالإنسانية أبقى من كل كرسي، والرحمة أخلد من كل سلطة

عودة الى مبروكة حيث وضعت اغراضي في صندوقها المترهل وأربّت على مقودها كما يُربّت المرء على ظهر حمارٍ عنيد أعدها وعداً جديداً: “ ان اصلح عطلها القديم متى ما فُرِّجت الأمور.” أعرف أنها تكذب عليّ بسلامة ظاهرية مؤقتة، وأعرف أنني أكذب عليها بوعود لا تنفذ ومع ذلك، نمضي معاً في شراكة إجبارية لا فكاك منها

حسين سالم العولقي