كان مفهوم الدولة واحداً من أهم تحديات النظم التي أسست لقيام الجمهوريات العسكرية،والخطأ المتعاقب لعشرات التجارب المختلفة والمتباينة في حيثياتها ومعطياتها أن تلك النظم مجتمعة حكمت بقوة السلاح وألبست جمهورياتها البزة العسكرية،وظلت لعقود وهي لا تعي المفهوم الصائب والصحيح للدولة الحديثة.
وتوالت التجارب مرارا وتكرارا إلى أن أنتجت حركات التحرر من الإستعمار جمهوريات عسكرية لا تقل إستعمارا عن الإستعمار الأجنبي،وتم تجريف كل المعاني والقيم التي نادت بالحرية والاستقلال والكرامة،وكل تلك النظم الجمهورية العسكرية تقاسمت السلطة والثروة والنفوذ والمزايا والأمتيازات،وتركت شعوبها على هامش الفتات والإنحدار.
غير أن الشعارات والمقولات الثورية كانت وقودا نافعا ومحركا لكل المتغيرات والتحولات التي أدارتها السلطات الجمهورية الحاكمة،وهي تغير ولاءاتها وتحالفاتها بما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا،وهو الشعار الذي صال وجال وهو يتنكر لمرحلة ويتبرأ من أخرى في سبيل البقاء على سدد الحكم المهزومة أخلاقيا وحسيا،وفي سبيل الحفاظ على المصالح المأزومة عقليا وإنسانيا،وهو ماحصل ولا يزال حاصلا.
وبقي مفهوم الدولة لعقود حبيس عقليات عسكرية رفضت أن تتعقلن ورفضت أن تتغير،ورفضت أن تتنازل عن إستعلاءها وصلفها وغطرستها،ولمن يعي الحقيقة رأيا أقوى من أن يدجن ويجير،وهو ماترفضه العقليات المتمسكة بالجمهوريات العسكرية،وهي العقليات التي ترى وإلى اليوم أن لا حل ولا مخرج لأزماتنا وكوارثنا إلا بالتمسك بحكم العسكر.
وإذا كان هناك من عقاب عرفته الأرض كل الأرض وعبر التاريخ فلم ولن يكون إلا حكم العسكر،وأما المتمسكين بحكم العسكر فليسوا أكثر من طابور طويل من السوقة والأبواق والإنتهازيين والوصوليين،وهم موجودين وفي كل الأقطار التي حكمها العسكر ولا زالوا يحكمونها،ولكنها عقليات ذات أصوات مؤثرة ومدعومة،وهي التي تحاول وبكل ما أوتيت من قوة أن تصفر الحساب القديم لجمهوريات العسكر،وذلك للشروع في مراحل جمهورية جديدة للقوى العسكرية المتغلبة سلمآ أو حربآ.
ومع كل ذلك تعجز كل المحاولات أمام تحدي مفهوم الدولة،وهو التحدي الغائب الحاضر أمام طموحات العسكر الجدد وأمجاد وأرث الحرس القديم،وذلك لأن مفهوم الدولة هو ذاته المفهوم الذي توهمت الوصول إليه النظم الجمهورية القديمة.
وهو ذاته المفهوم الذي ينادي به عسكر اللحظة الراهنة،والسباق قائم وعلى أشده للوصول لصيغ توافقية وجامعة بين العسكر وباقي الأطراف،وهو مالم يتم في السابق ومالم يتم في الحاضر طالما وإن الإصرار على إعادة التجارب القديمة متسيد للمشهد،والذي لا يحتمل المزيد من المغامرات.
ومابين خيار مفهوم الدولة القديم للعسكر وما بين العقليات الداعمة للعسكر يرتهن مصير شعوب وأوطان خارجة تماماً من كل الحسابات والمصالح التي يتبناها كهنة الحكم وأساطنة السياسة،ولا يمكن أن يكون مفهوم الدولة عبارة عن جيوش عائلية ومراكز قوى عشائرية وطقم وزمر فاسدة مقربة من الحاكم،وكما ولا يمكن أن يكون مفهوم الدولة القديم هو الذي يراد أن تتم إعادة إنتاجه لعقود قادمة،ومع كل ذلك فالمؤشرات جميعها ذاهبة لمنحى إعادة إنتاجه.
وبينما الحقيقة أن الشعوب أبقى من العسكر وعقلياتهم،وأبقى من أن تتم إعادة إنتاج مفهومهم العقيم للدولة،وما دون هذه النتيجة هو الحكم بالعقاب على الشعوب وإستجرار الماضي في قوالب رديئة لن تصلح ولن تفلح،وإذا قمنا باستدعاء النتائج القديمة سنكتشف أننا شعوب لا يعنيها المشهد الجديد،وهي النتيجة الأكثر قتامة وكارثية،وهذا يعني أننا شعوب غير صالحة للعيش بحرية وآدمية،ولا تستحق أن تكون كرامتها الإنسانية دافعا لبقائها ووجودها.؟!