آخر تحديث :Fri-17 Oct 2025-01:00PM

العلماء ورثة الأنبياء… بين رفعة العلم وقدسية النبوة

السبت - 04 أكتوبر 2025 - الساعة 01:36 م
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب



المقدمة


العلم في التصور الإسلامي ليس مجرد وسيلة معرفية، بل هو سُلَّم الاستخلاف الذي به يعمّر الإنسان الأرض وفق مراد الله. ولذا رفع الإسلام مكانة العلماء وجعلهم في منزلة رفيعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء». فهي عبارة تختصر فلسفة متكاملة: العلم ميراث الأنبياء، والوراثة هنا وراثة وظيفة وغاية، لا وراثة مقام واصطفاء.


فالعلماء – بما يحملون من نور المعرفة – هم الذين يبقون رسالة الاستخلاف حيّة بعد انقطاع الوحي، وهم الذين يذكّرون الناس بمعنى وجودهم وغايته، ويقودون العقول إلى نور الشرع والحق. ولهذا قال بعض الحكماء: "العلماء مصابيح الأرض"، لأنهم يضيئون للناس طريق الحق، كما أضاء الأنبياء من قبل طريق الهداية.


لكن رفع شأن العلماء شيء، ومنحهم قدسية النبوة شيء آخر. فمكانة العلماء رفيعة، أما النبوة فمقام إلهي لا يُنال بالسعي ولا بالعلم، وإنما هو اصطفاء رباني محض، لا يدخل في قانون الوراثة البشرية. وهنا تكمن دقة التمييز: أن نفرّق بين رفعة العلم، وبين قدسية النبوة.


العلم: ميراث الأنبياء ووسيلة الاستخلاف


العلماء يرثون الأنبياء في معنى واحد جوهري: العلم الذي يوجه حياة الإنسان. فالأنبياء جاؤوا ليعلّموا الناس أصول التوحيد، وشرائع العدل، وقواعد العمران، وطرائق تزكية النفس.

وبعد انقطاع الوحي، كان لابد أن تبقى هذه المعاني حاضرة عبر العلماء الذين يشرحون النصوص، ويفتحون أبواب الاجتهاد، ويواصلون مهمة التبليغ.

وهذا ميراث عظيم، لكنه ميراث وظيفة ورسالة، لا ميراث مقام وقداسة.

العلماء ورثة في العلم، لا ورثة في الاصطفاء. ورثوا المنهج، لا العصمة. ورثوا البيان، لا الوحي. ورثوا مسؤولية التعليم والهداية، لا قداسة النبوة.


النبوة: مقام قداسة واصطفاء


النبوة ليست مرتبة يمكن أن يصل إليها البشر بالكدّ والاجتهاد. هي مقام قدسي قائم على الاختيار الإلهي المحض. فمن شاء الله اصطفاه، ومن لم يشأ لم يبلغه ذلك المقام مهما بلغ من علم وزهد وتقوى.


الفرق بين مقام العلماء ومقام الأنبياء هنا شاسع كالفرق بين النور الذي يُستعار من الشمس وبين الشمس ذاتها. العلماء يحملون قبسًا من النور الذي أرسله الله على ألسنة أنبيائه، لكنهم لا يملكون مصدر النور ذاته، ولا يستمدون عصمتهم من وحي محفوظ.


فالعالم – مهما بلغ – يظل بشراً: يجتهد فيصيب، ويجتهد فيخطئ، وقد يدخل في اجتهاده الهوى أو السياسة أو المصلحة.

أما النبي، فمعصوم في التبليغ، مُصطفى في الرسالة، محميّ من الخطأ في أداء مهمته. وهنا يكمن جوهر الفارق بين رفعة العلم وقدسية النبوة.


الوهم الذي أعاق الأمة


المعضلة بدأت حين خلط بعض العلماء أو بعض أتباعهم بين هذين المقامين. فصار العالم يُعامل وكأنه نبي صغير، ورُفعت أقواله إلى منزلة الوحي، وأحيط بهالة قداسة لم يمنحها الله إلا للمصطفين من عباده.


وبهذا الخلط:

١. تعطّلت آلية الاجتهاد والنقد.

٢. تحوّل الخطأ البشري إلى دين ملزم.

٣. استُخدم العلم لشرعنة الاستبداد والمشاريع السياسية.

٤. جُمّد العقل المسلم عن ممارسة حقه في التفكر والمراجعة.


وكل ذلك نتيجة إلباس العلماء ثوب القداسة النبوية، بينما هم في حقيقتهم معلّمون ومجتهدون، لا أنبياء ولا معصومون.


نظرة عميقة للتمييز


إذا تأملنا في جوهر العبارة النبوية «العلماء ورثة الأنبياء»، نجد أنها تقوم على معادلة دقيقة:

وراثة العلم = وظيفة استمرارية.

النبوة = اصطفاء قدسي لا يتكرر.



الفلسفة هنا أن الأمة لا تُترك بلا مرشد بعد النبي، لكنها لا تُمنح نبيًا بعده. العلماء يضيئون الطريق بعلمهم، لكنهم لا يحملون قداسة الاصطفاء. وهذا يحقق توازنًا بديعًا:

بقاء الهداية عبر العلم.

وحفظ قدسية النبوة من أي انتحال أو تزييف.


إن الخلط بين هذين المستويين – العلم والقداسة – هو في حقيقته إهدار لكرامة العلم نفسه؛ لأن العلم لا يحتاج إلى قناع القداسة ليكون رفيعًا. فكرامة العلم تأتي من قدرته على الهداية والإصلاح والعمران، لا من هالة مصطنعة تُفرض على أصحابه.


خاتمة:


إن تكريم العلماء واجب، وتعظيم مكانتهم ضرورة، لكن من الخطأ أن نُلبسهم قداسة لم يمنحها الله إلا لأنبيائه.

فللعلم رفعة، وللعلماء مقام رفيع.

أما القداسة فهي للنبوة وحدها، وهي اصطفاء لا وراثة فيه.


ومن هنا فإن أعظم ما يمكن أن نمنحه للعلماء هو أن نتعامل مع أقوالهم كاجتهادات بشرية رفيعة، تستمد قيمتها من قربها من الحق والدليل، لا من هالة قداسة زائفة. وأن نوقرهم لعِلمهم، دون أن نؤلّههم لمقام لم يُعطَ إلا للأنبياء.


فالحديث الشريف «العلماء ورثة الأنبياء» إنما هو نداءٌ لتكريم العلم، لا لتأليه البشر، ولرفع مكانة العلماء دون أن نخلط بينهم وبين مقام الاصطفاء النبوي.

فالعلماء ورثة في العلم، لا ورثة في القداسة. وبين المقامين مسافة لا يقطعها إلا الوحي، ولا يمنحها إلا الله.


---


✍️ عبدالعزيز الحمزة

السبت ٤ اكتوبر ٢٠٢٥م