المقال الاول من سلسلة مقالات ثورة ١٤ اكتوبر
في مسيرة الشعوب، لا تنبثق الثورات من فراغ، بل هي خلاصةُ أنفاسٍ متقطعة في صدور الأحرار، تراكمت عبر عقود من القهر والحرمان. وهكذا كان اليمن، شماله وجنوبه، يعيش قبل ستينيات القرن الماضي في سجنين متوازيين: قيد الاستعمار البريطاني في الجنوب، وقيد الكهنوت الإمامي في الشمال. قيدان مختلفان في الشكل، لكنهما يتشابهان في المضمون: استلاب الإنسان وإخضاعه، وسلب إرادته وإقصاؤه عن مسرح التاريخ.
لكن الوجدان اليمني، بطبيعته المجبولة على العزة، لم يخضع ولم يلن. فمنذ بدايات القرن العشرين، اشتعلت الانتفاضات الشعبية كشرارات مبكرة لبركان قادم. في شمال الوطن، انتفاضات ثورة الدستور 1948، وحركة 1955، ثم نضال “الأحرار” في المهجر، كانت محاولات لكسر طوق الإمامة وفتح باب الجمهورية. وفي الجنوب، لم يكن أبناء عدن و حضرموت وشبوة ولحج وأبين أقل توقًا للحرية، فواجهوا الاحتلال البريطاني بالاحتجاجات والإضرابات والتمردات المسلحة منذ أربعينيات القرن الماضي، فكانت حركة تمرد بن عبدات في حضرموت عام 1941 ، و قبلها تمرد قبائل باكازم العوالق السفلى عام 1934 ، وتمرد قبائل الربيز عام 1954 ، وتمركز ثوار دثينة في جبال فحمان عام 1957.
وكان الحراك العمالي والسياسي في عدن من بداية عام 1940 وحتى 1963 كل هذه الارهاصات كانت مشاعل تنير الطريق الثوري وتمهد السبيل لثورة 14 اكتوبر 1963
هذه المحاولات لم تكن معزولة، بل كانت مترابطة بحبلٍ سريّ واحد هو واحدية الوجدان الثوري اليمني. فالثوار لم يعرفوا الحدود الوهمية بين شمال وجنوب؛ كانوا يلتقون في القاهرة ودمشق وبغداد، يتناقلون أدبيات الحرية، زيتبادلون البنادق والبيانات، ويقسمون على أن يحرروا اليمن كله من قيوده، سواء كان القيد على شكل كهنوت إمامي أو استعمار بريطاني بغيض.
ثم جاءت اللحظة الفارقة: ثورة 26 سبتمبر 1962 في شمال الوطن. كانت زلزالًا سياسيًا هزّ المنطقة كلها، وأعاد تعريف اليمني أمام نفسه وأمام العالم. وما هي إلا سنة واحدة حتى تجاوب الجنوب مع صداها، فانفجرت ثورة 14 أكتوبر 1963، لتعلن أن لليمن روحًا واحدة تتنفس في اتجاه واحد.
الدهشة التي تصيب الباحث في تلك المرحلة ليست فقط في التتابع الزمني بين الثورتين، بل في التناغم العميق الذي جمعهما؛ كأن سبتمبر وأكتوبر لم تكونا ثورتين منفصلتين، بل جناحين لطائر واحد يريد أن يحلّق في سماء الحرية.
وهنا لا يمكن إغفال أن هذه الواحدية لم تكن سياسية أو عسكرية فحسب، بل كانت أيضًا واحدية جماهيرية و فكرية ودعوية غذّاها التيار الإسلامي المعتدل في عدن وصنعاء وتعز وحضرموت. فقد أسهم العلماء والمصلحون – وفي مقدمتهم الشيخ محمد بن سالم البيحاني ورفاقه من رموز الدعوة والتربية الإسلامية – في بناء وعي وطني يقوم على الإيمان والعلم والحرية، وواجهوا المشروعات الاستعمارية والأفكار الكهنوتية، التي حاولت تمزيق المجتمع اليمني وإبعاده عن هويته العربية والإسلامية. لقد مهّد هؤلاء الطريق أمام الثورتين، وصنعوا الأرضية الأخلاقية التي جعلت من الحرية فريضة ومن مقاومة الاستبداد عبادة.
هكذا يتضح جوهر القضية: أن الحركة الوطنية اليمنية لم تبدأ في 62 و63، بل كانت تراكمًا تاريخيًا لوعي جمعي ممتد، نضجت ثم أثمرت ثورتين متعاقبتين، حملتا ذات الرسالة: التحرر من الاستبداد، وبناء وطن جمهوري يليق بكرامة الإنسان اليمني.
لقد كانت هذه الشرارة الأولى التي وحدت الدماء والآمال، وأعادت صياغة هوية الشعب حول معادلة بسيطة وعميقة:
هي واحدية الوجدان الثوري والهوية اليمنية و المصير المشترك.
—-----------------
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الاحد ٥ اكتوبر ٢٠٢٥م