آخر تحديث :السبت-25 أكتوبر 2025-10:26م

رحيل علي عنبه… حين يُهان الفن في لحظة الوداع الأخيرة

الأحد - 12 أكتوبر 2025 - الساعة 09:13 م
صلاح الطاهري

بقلم: صلاح الطاهري
- ارشيف الكاتب


لم يكن المشهد مجرد لقطة عابرة، بل كان طعنةً نازفة في ضمير وطن أنهكته القسوة، وأثقلته اللامبالاة.

جثمان الفنان الشعبي الكبير علي عنبه، يُنقل في سيارةٍ متهالكة في القاهرة، كأن القدر أراد أن يُكمل الحكاية إلى آخرها؛ فنان عاش بسيطاً، وغادر بسيطاً، لكن البساطة هنا لم تكن كرامة… بل كانت جرحاً في كبرياء الفن، وإهانة لصوت غنى لليمنيين من قلبهم وإلى قلبهم.


يا لهذا الوطن الذي يكرم أبناءه بالدمع لا بالفعل، ويشيع رموزه بسيارات صدئة لا تليق حتى بظلهم!

كيف لفنان ملأ شوارع اليمن بصوته أن يُوارى جسده في غربة، دون جنازة تليق بوهجه؟

كيف لبلدٍ غني بالحب والعاطفة أن يكون فقيراً إلى الوفاء؟


علي عنبه لم يكن مجرد مغنى شعبي.

كان ذاكرة الناس البسطاء، نكهة الشارع، وصوت المقايل، ودفء القلوب التي لم تعرف إلا الأغنية الصادقة.

من لهجة الباعة، من صدور الموجوعين، من ليل المقايل العامر بالقصص والحكايا، ولد صوته، كأن الأرض أنجبته ليكون شاهداً على نبض اليمنيين.

غنى لهم، لا عليهم… وعاش بينهم لا فوقهم.


ورغم كل ما ذاقه من تعب وتجاهل وتهميش، ظل علي عنبه يغنى.

كان يؤمن أن الفن ليس ترفاً، بل عزاءٌ للناس، ومساحة للفرح في وطن ضاقت فيه مساحات الفرح.

غنى للهوى، وللشوق، وللوجع، وللفقراء الذين وجدوا في صوته ما يعيد إليهم شيئاً من كرامة العيش.


لكن ما لم يكن يتوقعه أحد، هو أن تكون خاتمته بهذا الشكل المؤلم.

أن يرحل عن الدنيا، ويُحمل جثمانه في مركبة تئنّ تحت وطأة الزمن، كأنها تروي حكاية وطن أرهقته الحرب، ونسي أبناءه حتى في موتهم.

كان المشهد أقسى من أن يُحتمل…

جنازة صامتة، وبكاء من خلف الشاشات، وغضبٌ مكتوم يتصاعد من حناجر اليمنيين الذين قالوا

حتى في موتهم… يُهان المبدعون في هذا البلد.

أليس من العار أن يموت الفن مرتين؟

مرةً حين يُغلق المسرح، ومرةً حين يُهان الجسد الذي أنشده؟


كان علي عنبه صوت اليمن الشعبي الخالص، مدرسةً من الشجن، ومعلماً للأصالة.

غنى _يا هاجري يا عيبتك شبابي- فبكى العشاق،

وغنّى -ما بشكيك لو مت فيك- فبكى الوطن كله من بعده.


ورغم المآسي التي لاحقته في حياته، ظل صامداً، مؤمناً بأن الفن رسالة، لا صفقة.

وفي آخر أيامه، أعلن إعتزاله في فيديو مؤثر، قال فيه بصوت مبحوح

لم أعد أستطيع العطاء كما كنت، لقد أرهقني الحزن، وأرهقتني الحياة.

يا لها من جملة تختصر اليمن كلها.



إن مشهد نقل جثمانه في سيارة متهالكة لم يكن مشهداً للفنان وحده،

بل كان مشهداً لوطن بأسره يُشيّع كرامته في صمتٍ مطبق.

لقد مات علي عنبه، لكن الجرح الذي تركه فينا لم يمت،

ولن يُمحى ما دام في اليمن إنسان يحب الفن، ويقدر البساطة، ويؤمن أن من يغني للناس يستحق أن يُكرَّم لا أن يُهان.


سلام عليك يا علي…

سلام على صوتك حين كان الدمع لحناً، وعلى أغانيك التي لا تموت.

نمْ قرير العين، يا فنان الشعب، فاليمنيون الذين أحببتهم، وإن قصروا في وداعك،

لن ينسوك ما دام فيهم قلب ينبض بالوفاء.