قراءة سياسية تحليلية في ثورتي سبتمبر وأكتوبر وحتمية استعادة الجمهورية اليمنية المستقلة
في زمنٍ أثقلته الحرب وأربك وعي الأجيال، وفي عقدٍ لم يعرف فيه كثيرٌ من شباب اليمن طعم الدولة ولا شعور الجمهورية، تبرز الحاجة الملحّة لاستعادة الوعي بالتاريخ الوطني ، لا كتاريخٍ يُروى، بل كقضية وجود وهوية. إنّ من لم يعرف كيف قامت الجمهورية، لن يدرك لماذا تُستباح اليوم، ومن لم يعِ أهداف ثورتي ٢٦ سبتمبر و١٤ أكتوبر، لن يستطيع أن يميّز بين مشروع دولةٍ ومشروع سلالةٍ أو ميليشيا.
إنّ هذه المقال هو نداء للوعي، وإعادة تعريفٍ لجوهر الثورة اليمنية، لتكون مرجعًا لجيلٍ يبحث عن الحقيقة وسط دخان الحرب وأكوام التضليل.
أولاً: ثورتان… وهدفٌ واحد
لم تكن ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م في الشمال وثورة ١٤ ١٩٦٣م في الجنوب حدثين منفصلين في التاريخ، بل وجهين لوعيٍ وطنيّ واحد أراد أن يسترد للإنسان اليمني مكانته وكرامته.
سبتمبر أسقط كهنوت الإمامة الذي صادر إرادة الشعب واحتكر الحكم باسم السلالة، وأكتوبر كسر قيود الاستعمار الذي أراد أن يُبقي الجنوب مستعمرة مفصولة عن جسدها الوطني.
كان أبطال الثورتين، يحلمون بيمنٍ واحد، حرٍّ ومستقلٍّ وكامل السيادة، يقوم على العدالة والمساواة، وتُدار شؤونه بإرادة أبنائه لا بإملاءات الغريب.
لقد اتحدت الدماء والأحلام يومها، فسقطت أسوار صنعاء وعدن في معركة واحدة ضد الاستبداد والتبعية. ومن رحم تلك اللحظة، وُلدت الجمهورية، لا كجغرافيا سياسية فحسب، بل كحالة وعي وميلاد جديد للإنسان اليمني.
ثانيًا: الجمهورية التي عرفناها… واليمن الذي فُقد
عاش اليمنيون بعد الثورتين عقودًا من المدّ الجمهوري، تخللتها صعوبات وصراعات، لكنها كانت — على قسوتها — صراعات داخل مشروع الدولة، لا صراعًا على وجودها.
عرف اليمنيون لأول مرة مؤسسات الدولة، والمدارس، والجامعة، وجيشًا وطنيًا، وصوتًا سياسيًا حرًا يتحدث باسم الشعب لا باسم العائلة أو القبيلة أو المذهب.
تذوّق اليمني طعم الاستقلال واعتزّ بجوازه الوطني، ومشى مرفوع الرأس لأنه ابن جمهورية لا تابع لإمام ولا عبد لمستعمر.
حتى تمت الوحدة اليمنية المباركة، كنتيجة حتمية للوجدان الثوري الواحد.
وعاش اليمنيون في دولة واحدة ، ينمو معهم الحلم في دولة جمهورية آمنة ومستقرة ، تنعم بالحرية ، والتداول السلمي للسلطه والشراكة في الثروة وإدارة الدولة
لكن هذا الحلم الكبير بدأ يتراجع مع تغلغل مشاريع ما قبل الدولة، ومع تهاون النخب التي استبدلت روح الثورة بترف السلطة، حتى انقضّ الانقلاب الحوثي عام ٢٠١٤م ليعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، ويبعث الكهنوت في ثوبٍ جديدٍ محاطٍ بشعاراتٍ زائفة.
ثالثًا: الانقلاب الحوثي… حرب على الوعي والجمهورية
لم تكن الحرب التي أشعلتها المليشيا الحوثية حربًا على السلطة فحسب، بل حربًا على هوية اليمن الجمهوري، حربًا على ذاكرة وطنٍ أراد أن يعيش بكرامة.
لقد سعت المليشيا في الشمال والجنوب، إلى طمس الوعي الوطني، وإعادة تشكيل الأجيال بمنطق الإمامة الجديدة: الطاعة العمياء للسلالة، وتقديس الماضي المظلم، وتحريم التفكير الحر، وعقلية التمزيق والارتزاق.
وفي جغرافيا الحرب الطويلة، نشأ جيلٌ جديد لم يعش الجمهورية، ولم يعرف الدولة إلا كأطلالٍ ومبانٍ مدمّرة.
جيلٌ تائه بين أخبار الحرب وسرديات التضليل، يظن أن اليمن لم يعرف يومًا وطنًا مستقرًا ولا دولة جمهورية
وهنا تأتي مسؤوليتنا التاريخية: أن نعيد له ذاكرة النور، أن نخبره أن اليمن كان يومًا جمهورية تنبض بالحياة، وأنها يمكن أن تولد من جديد.
رابعًا: استلهام الثورة من جديد
إنّ الوعي الجمهوري اليوم هو جبهة المقاومة الأولى.
فما فائدة البندقية إن لم يحملها وعي؟ وما جدوى النصر العسكري إن لم يتبعه مشروع وطني جامع؟
علينا أن نستحضر من سبتمبر وأكتوبر دروسهما الكبرى:
أن لا كرامة لوطنٍ بلا سيادة.
وأن الاستبداد — دينيًا كان أو سياسيًا — لا ينهزم إلا بوحدة الشعب.
وأنّ العدالة والمواطنة هما العمودان اللذان تقف عليهما كل جمهورية حقيقية.
إنّ الثورة لا تموت، بل تضعف حين ينضعف أبناؤها، وتقوى حين يستعيدون وعيهم.
واليوم آن أوان استيقاظها من جديد.
خامسًا: نحو مشروع وطني جديد
ما نحتاجه ليس تكرار الثورة، بل استكمالها.
ثورتا سبتمبر وأكتوبر لم تكونا نهاية الطريق، بل بدايته. واليوم، بعد نصف قرن، يُطلب من هذا الجيل أن يحمل الراية لا بالشعارات، بل بالمشروع.
مشروع دولةٍ مدنية عادلة، تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، وتفصل بين الدين والسياسة دون خصومة مع الإيمان، وتعيد تعريف الوطنية على أساس المواطنة لا الجغرافيا ولا المذهب.
مشروعٌ يوحّد القوى الوطنية في مواجهة الانقلاب والوصاية والتمزيق، ويعيد لليمن مكانته في محيطه العربي والإقليمي، دولة مستقلة القرار، قوية بالمؤسسات لا بالأشخاص، كاملة السيادة على كل ترابها الوطني
اخيرا: من الثورة إلى اليقظة
ليست هذه البلاد لعنة كما يُصوّرونها، ولا شعبها عاجز كما يريدون له أن يصدق.
هذه أرضٌ أنجبت الثوار، واحتضنت الأنبياء، وصنعت جمهوريتها بدماء أبنائها لا بفضل أحدٍ عليها.
إن الجمهورية ليست نظام حكم فحسب، بل وعيٌ وكرامةٌ وإيمانٌ بأن الإنسان اليمني خُلق ليكون حرًا لا تابعًا.
والثورة اليوم ليست بندقية فحسب، بل فكرٌ يعيد بناء المعنى، وموقفٌ يرفض الخضوع، ووعيٌ يُنقذ الهوية.
فلنُعد تعريف أنفسنا كجمهوريين…
ولنكتب فجرًا جديدًا على جدار هذه الأمة، يحمل راية سبتمبر وأكتوبر، ويعلن:
لن تموت الجمهورية ما دام في اليمن قلبٌ مؤمنٌ بالحرية.
،،،،،،،
✍️ عبدالعزيز الحمزة
ليلة ١٤ اكتوبر ٢٠٢٥م
