تدخل المشفى بخطوات متثاقلة لا تدري أهو خوف أم شفقة أم تأمل
تحييك رائحة المطهرات وتصفعك أصوات الأجهزة وترى الوجع يسير على مهل في الممرات هناك حيث يصمت الكلام وتتكلم العيون.
وجوهٌ شاحبة أجساد معلقة بين الرجاء والوجع وأرواح تلوذ بالدعاء كل على طريقته.
تمضي قليلا ترى مريضا يساق على السرير الأبيض وآخر يجرّ قدميه متعبا وثالثا يبتسم للطبيب رغم الألم.
تشعر أن كل خطوة في هذا المكان تعيدك إلى ذاتك إلى ضعفك إلى حقيقة نسيتها وسط ضجيج الحياة أن العافية نعمة وأن الشكر لها لا يؤدى إلا بالاعتراف بعجزنا أمامها.
تلتفت نحو غرفة العمليات تسمع صرير الباب وكأنه يبتلع رجاء ويفتح باب أمل في الوقت ذاته.
وفي الممر المجاور تطل من نافذة صغيرة فتشاهد أماً تهمس بدعاء خافت تخفي دمعتها في طرف خمارها كي لا يراها ولدها المريض وكأنها تحاول أن تخفي عن الألم ملامحها وأن تقنع قلبها أن القادم خير.
وهناك في زاوية بعيدة يجلس رجل يرفع يديه إلى السماء، لا يدعو لنفسه بل لابنه الذي يرقد في غرفة العناية كأنما يقول:
"يا رب خذ من عمري وامنح له الحياة."
كم هو مؤلم ذلك الشعور حين ترى الوجع يلبس ملامح من تحب وكم هو جميل أن تملك قلبا لا يزال يؤمن بأن الدعاء يغير الأقدار.
تمضي أكثر وبين كل سرير وسرير قصة وجع لا تروى وحكاية صبرٍ لا تكتب.
وهناك من يتنفس بأجهزة تذكرك كم هو ثمين أن تتنفس دون وصلة أو أنبوب.
تتأمل كل ذلك فيصغر في داخلك كل ما كنت تشكو منه بالأمس وتدرك أن ما كان يقلقك لم يكن يستحق سوى ابتسامة و"الحمد لله".
في المشفى تتعلم كيف تصغي بصمت إلى الحياة.
تتعلم أن كل نبضة في صدرك تستحق سجدة شكر وكل حركة في جسدك تستحق دمعة امتنان.
هناك بين جدران باردة وسقف صامت ترى أن الصحة ليست مجرد خلوّ من المرض بل عافية في القلب والروح والرضا.
تخرج من المشفى مختلفا كأنك خرجت من درس عظيم في الحكمة.
تلامس وجه الشمس فتشعر بدفئها كأنك تراها لأول مرة.
تستنشق الهواء وتغمر صدرك بأنفاس عميقة تشبه الدعاء ثم تهمس من قلبك:
الحمد لله على العافية على النعمة التي تسكننا بصمت فلا ندرك قيمتها إلا حين نراها غائبة عن غيرنا.
كم نحن غافلون عن النعم التي تملأ حياتنا وكم نحن بحاجة لزيارة كهذه توقظ فينا الوعي وتشعل في أرواحنا امتنانا صادقا.
فليس أجمل من أن نحمد الله ونحن أصحاء لا لأننا أفضل من غيرنا بل لأننا ندرك أن دوام النعمة يحتاج لدوام الشكر.
العافية ليست شيئا يشترى إنها طمأنينة جسد وروح وسلام داخلي لا يقاس بالمال ولا بالمكانة.
فيا رب إن كانت العافية نعمة تنسى في زحمة الأيام فذكرنا بها دائما وعلمنا كيف نحمدك عليها ونحن نملكها لا حين نفقدها.
الحمد لله على العافية.. نعمة تضيء القلب قبل الجسد وتزرع فينا يقينا بأن الرضا هو أصدق دواء.