آخر تحديث :الإثنين-27 أكتوبر 2025-07:30م

النقد البناء: بوابة الوعي الحضاري الذي غاب عن حضرته

الإثنين - 27 أكتوبر 2025 - الساعة 02:54 م
منصور بلعيدي

بقلم: منصور بلعيدي
- ارشيف الكاتب


في المجتمعات الحية، يُعد النقد ظاهرة صحية لا غنى عنها، فهو بمثابة جهاز المناعة الذي يُفرز الأخطاء، ويُصحح المسار، ويُعيد التوازن حين تختل المعايير.

لكن حين يُغيب النقد، أو يُستبدل بالتقديس الأعمى، فإن المجتمعات تدخل في سبات حضاري، وتفقد قدرتها على التجدد، وتتحول إلى كيانات راكدة لا تستوعب المتغيرات ولا تواكب التحولات.


يقول الدكتور عبد الكريم بكار: _"جلّ ما نحن فيه من تخلّف وانحطاط هو مما عملته أيدينا، فتراكم الأخطاء والخطايا هو الذي يُهلك الأمم، وهو الذي يكسر شموخ الحضارات"_. هذا القول يضعنا أمام حقيقة جوهرية: أن القصور الذاتي هو أصل الداء، وأن الاعتراف بالأخطاء هو أول خطوة نحو العلاج.


ورغم وجود مؤامرات ودسائس خارجية، فإن المدرسة الواعية لا تُعلّق كل إخفاقاتها على شماعة الخارج، بل تُمارس نقدًا داخليًا صارمًا، يُراجع اجتهادات السابقين، ويُعيد تقييم المفاهيم التي أثبت الزمن عدم جدواها.


المعصومون من الخطأ هم الأنبياء فقط، أما سائر البشر، فاجتهاداتهم قابلة للنقد والمراجعة.

من حقنا أن نُراجع كل ما يمسّ المصلحة العامة، وأن نُعيد النظر في أقوال من سبقونا، تمامًا كما سيكون من حق الأجيال القادمة أن تُراجع أقوالنا.

فابن خلدون، رغم مكانته كمؤسس لمدرسة الوعي الحضاري، لم يكن بمنأى عن النقد، وقد وُجهت له انتقادات عدة، منها ما فُهم من تحيزه ضد العرب، ومنها ما يتعلق بنظريته حول حتمية شيخوخة الدول.


إن أهم دليل على ارتقاء الوعي هو امتلاك القدرة على تحليل التراث، واكتشاف وجوه الصواب والخطأ فيه. فالنقد ليس تهجمًا، بل هو أداة بناء، ووسيلة لفهم الذات، وتصحيح المسار، وإعادة صياغة وعي عربي يستوعب المتغيرات، ويُعيد بناء الحضارة على أسس متينة.


اقرؤوا كلام العقلاء عن أهمية التصحيح والتنقيح للتراث، وابصغوا في وجه المعترضين على النقد فالتاريخ لا يرحم من يرفض المراجعة ولا يُنصف من يُقدّس الجمود.

إننا بحاجة إلى ثورة فكرية تُعيد الاعتبار للعقل، وتُحرر الخطاب من سطوة التلقين، وتُعيد للمجتمعات قدرتها على التمييز بين الثابت والمتغير، وبين المقدس والبشري.