في قريةٍ نائيةٍ، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الريح وأهازيج الرعاة، وعبق المراعي الطبيعية يختلط برائحة الأغنام... وُلد منصور.
كانت حياة منصور رحلة طويلة من الألم والأمل، بدأت في ظلال الفقر والجهد، حيث عاش في ريف يغلب عليه طابع القسوة يكدح ويكافح من أجل لقمة العيش، يعتني بقطيع من الأغنام، ويواجه قسوة الحياة بصبر لا يلين.
لم يكن الفقر مجرد حالة عابرة في حياته، بل كان رفيقًا دائمًا، يسكن معه في كوخه المصنوع من الخوص، ويشاركه رغيفاً يابساً وأحلاماً مؤجلة.
منذ نعومة أظفاره، كان يرعى الأغنام تحت شمسٍ حارقة، يتأمل الأفق البعيد وكأن فيه وعدًا بالخلاص.
حين بلغ الرابعة عشرة، شدّ الرحال إلى المدينة ليلتحق بالمدرسة، يحمل كتبه كما يحمل قلبه المثقل بالهموم المليئ بالأمل.
بعد عامين، التحق بالجيش، ظنًا منه أن الحياة العسكرية ستمنحه شيئًا من الكرامة،لكن الراتب الضئيل والمصاعب المتراكمة لم تكن سوى فصلٍ جديد من فصول الشقاء.
وفي احد المنعطفات الخطرة خرج مطرودًا من الجيش ، لا مستحقات، لا تعويض، فقط وصمة الانتماء لرئيسٍ مضى.
عاد إلى الفقر، إلى الجوع، إلى ليالٍ لا يُسمع فيها سوى صوت معدته الخاوية.
سنتان من العذاب، حتى فتح الله له بابًا صغيرًا في وظيفة حكومية، تسلل منها نورٌ خافتٌ من الاستقرار.
ومع مرور السنوات، بدأت الحياة تبتسم له، خجولةً، مترددةً، لكنها ابتسامةٌ على اي حال.
ثلاثون عامًا من الهدوء النسبي، ظنّ فيها أن عواصف الزمن قد هدأت، وأن العمر سيمضي في سكينة واطمئنان.
لكن الحياة لا تُعطي وعدًا لاحد ، والقدر لا يُخبرنا متى ينقلب.
فجأة، وكأنها سقطت السماء على رأسه.. هاجمت منصور المصائب كالسيل الجارف، فقتلت فرحة حياته، وأرهقت روحه، حين فقد أعز ما يملك، ولداه الذين كانا نور عينيه، فكانت ضربة قاسية كضربة سيف على قلبه، أدمته وأدمعت عينه، لكنه ظل صامداً، يواجه الألم بعزيمة وإيمان، يختبئ وراء قناع الصبر، ويخفي وراءه بحرًا من الحزن والوجع.
حين قُتل ولداه، احمد ومحمد.
كانت الضربة موجعة، كسرت ظهره، لكنها لم تكسر إيمانه.
وقف شامخًا، يخفي دموعه خلف جدران الصبر، يواسي بناته، ويُطبطب على قلب زوجته.
وفي الليالي القمرية، كان يهرب إلى المسجد، حيث يذرف دموعه دفاقة كأنه ينقّي روحه من أدران الهموم، ويعيد شريط حياته، يتساءل : هل له من ذنوب، ومظالم، وخطايا ، كانت سبباً لما اصابه ، لكنه يجدها لاترقى الى عشر ما اصابه.
لم يقتل احداً ولم يظلم احداً ولم يقهر احداً .. ولكنه يسلم أمره لله
فيلجأ الى الصلاة ليجد فيها ملاذًا وراحة، تنساب فيها دموعه كأنها نهر من الحزن، يروي ظمأ روحه العطشى للسلام.
يُصلي في جوف الليل باكيًاً بحرقة وألم ، حتى لكانه ابكى الفجر معه.
كان الناس يرونه جبلًا لا يهتز، يقولون: "ما أعظم صبرك، لو أصاب غيرك ما أصابك، لانكسر."
ولم يعلموا أن مايرونه جبلاً انما يحمل في باطنه انهياراً زلزالياً وبداخله بركاناً من الألم، وأن صبره كان خوفًا على من تبقى، لا قوةً خارقة على طريقة مكره اخاك لابطل.
وفي قلب هذا الألم، كانت زوجته الصالحة، ملاذه الآمن، كانت تهمس له بكلمات الطمأنينة، وتحتضنه بحنان لا ينضب، تواسيه في مصيبته فهي الضوء في ظلام حياته، والنور في عتمة أيامه.
ثم جاءت الضربة الثانية، الأشد قسوةً ، حين رحلت زوجته، أم أولاده، رفيقة دربه، وسنده في الحياة.
كانت أهم وآخر معاقله الدفاعية في مواجهة مصاعب الحياة.
رحلت ام البنين وتركت قلبه مثقلاً بالحزن، وعيونه تفيض بالدموع، يتساءل كيف يواصل الحياة بدونها، وكيف يواجه أيامه القادمة، وهو خالي الوفاض من نبضها.
كانت:
زوجةٌ صالحةٌ،
حبيبةٌ حانيةٌ،
أمٌّ رؤومٌ،
مربيةٌ فاضلةٌ،
أختٌ عطوفٌ،
وصديقةُ الروحِ في أدقِّ تفاصيلِ الحياة ،
لاينقصها شئ ، فلديها:
- جمال العقل
- جمال الشكل
- جمال الحكمة
- سرعة البديهة ،
- حدة الذكاء..
- بهية الطلعة.
- رقيقة المشاعر .
- لطيفة المعشر .
- جمال التدبير .
- جمال الفطنة.
- جمال الروح.
*انها الجمال كله ، فكيف لا يموت قهراً على فراقها.*
هي نوره الوضاء في عتمة ليله الطويل لكنها تركته نهباً للحسرة والالم .
برحيلها، انطفأ ذلك النور الذي يرى به الحياة..
بعدها لم يعد للحياة معنى ولم يعد للنهار اشراقة ولم يعد للعيش طعم.
صار الليل مأوى لدموعه، والفجر موعدًا لبكائه في محراب المسجد مع هجيع الليل وسكون الكون يناجي ربه بحرقة يطلب الرحمة والاجر من الله في مصيبته ويسترجع ويحوقل.. ويستجر الذكريات.
*رحلوا جميعاً: خالد، عيشة، أحمد، محمد، ثم أمهم.*
لكن ذكراهم لم تغادر قلبه ، مازالوا يسكنون فيه، يهمسون له في لحظات الصمت، يضيئون له دروبًا حين تشتد العتمة.
كان يراهم في كل شيء، في زوايا البيت في لمة الاسرة في كل دمعة حزن حرا في كل لحظة ألم في كل نسمة هواء في كل سجدة خشوع في كل وقفة ابتهال الى ربه ، في الدموع المنسابة على وجنتيه التي حفرت عليها اخاديد ، في همسات روحه، في نبضات قلبه..
لم يجد متنفساً من شدة الحزن الا ان يكتب لهم المرثيات والاشعار الحزينة لا ليرثيهم، بل ليشكرهم لأنهم علموه الحب، والوفاء، والصدق لأنهم تركوا فيه بصمةً لا تُمحى، ونورًا لا يخبو.
يتمسك بذكراهم كما يتمسك الغريق بخشبة نجاة، يغزل من الحنين خيوطًا تربط قلبه بهم، ويمضي في الحياة حاملًا إرثهم من الطيبة والنقاء.
في لحظة من الاحباط ، تتلاطم مشاعره، بين ألم الفقد، ووجع الذكرى، حيث تتراقص في مخيلته صورهم، ضحكاتهم، حبورهم ، ونصائحهم، وكأنهم لا يزالون بين يديه، يملؤون روحه حبًا ووفاءً، ويذكرهم بقلب ينبض بالحزن والألم، ويؤمن أن الحب لا يموت، وأن الذكرى تبقى خالدة في أعماق القلب، كنجوم لا تغيب في سماء الليل.
في زوايا قلبه الموجوع ومئآقي عيناه الدامعة ، حيث لا يصل ضجيج الحياة، كانت أرواحهم ترفرف كنسيمٍ دافئ، تهمس له بأن الحب لا يموت، وأن الذكرى أحيانًا تكون أكثر حضورًا من الوجود نفسه.
وفي كل ليلة، حين يهمّ الفجر بالبزوغ، كان منصور يهمس في سجوده : "لا شيء يعزيني عن فراقكم إلا الأمل في لقائكم في جنات النعيم."
وهكذا، بقي منصور حيًّا بالذكرى، نابضًا بالحب، مؤمنًا باللقاء، ينتظر ساعة الرحيل..
يواصل حياته رغم الخطوب .. ولكنها حياة تخلو من معناها الحقيقي .. جسداً بلاروح.. فروحه معهم هناك.. حيث المستقر الدائم والخلود الابدي بين يدي رب رحيم ودود.
*ما أقسى الحياة بلا رفيق درب وحبيب قلب.*
حين يموت من نحبُّ، تموت معه اشياء كثيرة في نفوسنا
يموت الفرح .
تموت السعادة.
يموت الاطمئنان .
تموت راحة البال .
يموتُ معه كلُّ شيءٍ جميل فينا
ويبقى الموت فاقراً فاه يلتهم الأحبة بلا رحمة اذا حان الأجل.
حينها تنهمر سيول الدمع دفاقاً من مئاقينا كشلالات هادرة في وديان اعماقنا.
تحفر الدموع اخاديد في وجناتنا
وتشق انحدارات في سهول تفكيرنا
لكنها قطعاً لاتطفئ لهيب القهر والألم الذي تختزنه مخازن قلوبنا ولاتطفئ نيران مشاعرنا المحترقة.
لكن الذكرى تبقى محفورةً
في سويداءِ القلبِ،
وفي مهجةِ الفؤادِ،
وفي حنايا الضلوعِ،
ذكرى لا تموتُ أبدًا.
يكتب منصور بمداد قلبه لا بحبر قلمه عن حبهم، ووفائهم، وعن ألمه ، وحزنه العميق ، وذكراهم، ليبقى نورًا يضيء دروب حياته، ..
لم يبق له إلا أمل اللقاء بالاحبة ، مع محمد وصحبه في جنات النعيم، حيث لا فراق بعده، ولا وداع، فقط سلام ورضوان من الله العظيم.
يحتاج الإنسانُ في حياته إلى قلبٍ يسعهُ حين تضيق به الأرض، وإلى صدرٍ يحمل عنهُ ثِقل الأيام دون أن يسألهُ لماذا أثقلته ..
يحتاج إلى عينٍ ترى فيه ما لا يراه الناس، وتُبقيه في نظرها أجمل مما يبدو .
يحتاج إلى من يسمع سُكوتَه قبل كلامه، ويرى تعبه خلف ابتسامته، ويحتويه حين يعجز عن شرح ما به."*
تلك هي جزء من صفات زوجته التي افتقدها وتحمل صفات اجل وارفع منها كثيرة فكيف له ان لايموت كمداً لفراقها.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ذلك الأمل الذي يجعل قلوبنا تشرأب الى لقائهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
*قد ماتَ قومٌ وما ماتتْ فضائلُهم*
*وعاشَ قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ*