ليست الجامعات مجرد مبانٍ تفتح أبوابها، ولا المحاضرات جدرانًا تتردد عليها الأصوات؛ الجامعات روح وطن ينهض، وعقل أمة تتشكل، وهمّة رجال آمنوا بأن المعرفة ليست ترفًا، بل قدر الأمم التي تريد الحياة.
وفي قلب أبين، حيث كانت التحديات أكبر من الموارد، وحيث كان الممكن أقل من الأحلام، ظهر اسم البروفيسور محمود الميسري ليس كمدير لجامعة فحسب، بل كقائد لمشروع وطني هادئ وعميق.
بداية من الصفر.. وإرادة بحجم المستقبل
حين تولّى الميسري قيادة الجامعة، لم يكن أمامه مكتب مكتمل أو ميزانية جاهزة أو مسار ممهد. كان أمامه حلم جماعي لشعب يريد أن يخرج من رماد الحرب إلى نور المعرفة.
لم يتكئ على أعذار، ولم يتكلم بلغة العجز، بل بدأ من الفراغ، وصار ينسج بجهده شبكة مؤسسات، ولوائح، وخطط، وكوادر، حتى أصبحت جامعة أبين كيانًا يفرض احترامه، لا مطلبًا ينتظر الدعم.إنجازات لم تولد من موارد… بل من رؤية
قادة المؤسسات نوعان:
من ينتظر الإمكانيات ليبدأ، ومن يجعل الإمكانيات تأتي بعدما يبدأ.والميسري كان من الصنف الثاني.
ومن أهم ما تحقق في عهده:
تحويل الجامعة من فكرة مهددة إلى واقع مؤسسي راسخ
إنشاء بنية إدارية وأكاديمية متماسكة تُدار بمعايير حوكمة وإجراءات واضحة
فتح تخصصات علمية نوعية تتوافق مع احتياجات المجتمع والتنمية
توفير كوادر تدريسية مؤهلة رغم صراع الجامعات على العقول والكفاءات
إنشاء قاعات ومرافق وتجهيزات تعليمية بموارد محدودة ولكن بإرادة عظيمة
إطلاق الحراك العلمي والثقافي داخل الجامعة: ندوات، مؤتمرات، فعاليات الحفاظ على انتظام الدراسة حين تعطّلت في مؤسسات أخرى بسبب الظرف العام
توسيع الفرص الأكاديمية لأبناء أبين وتقليل معاناة الانتقال خارج المحافظة
ترسيخ هوية الجامعة كرافعة للتنمية لا كيانًا إداريًا عابرًا
هذه الإنجازات لم تولد في زمان هدوء، بل وسط ضجيج الحاجة، واضطراب السياسة، وإلحاح الضرورة.
القيادة: أن ترى ما لا يراه الآخرون
لم يكن نجاح الميسري مصادفة، بل نتيجة فهم عميق لمعنى التعليم في زمن الأزمات:
“حين تهتز الأوطان، تصبح الجامعة آخر خطوط الدفاع عن وعي الأمة وأول جسور عبورها نحو المستقبل.”
لقد واجه البروفيسور الميسري لحظة تاريخية كانت تسير باتجاه تقويض المؤسسات، فاختار أن يقاوم بالعلم لا بالصوت، وبالعمل لا بالشعارات.
رأى في أبين ما رآه المؤسسون الأوائل في أوطان أخرى: أن النهضة تبدأ من القاعة الجامعية قبل أن تبدأ من القرار السياسي.
رسالة تاريخية
حين تُكتب صفحات نهضة أبين، سيبقى اسم محمود الميسري علامة في سطر مهم: سطر يقول إن جامعة وُلدت في زمن الحاجة، فكبرت رغم كل شيء، لأن رجلًا حملها بإيمانه، لا بميزانية الدولة.
قد تتغير الظروف، وقد تتبدل المواقع، لكن يبقى الأثر هو الحاكم.
واليوم، يمكن القول بثقة إن جامعة أبين لم تعد مجرد مشروع أكاديمي، بل شهادة حيّة على أن القائد الذي يؤمن بالعلم لا يسقط أمام العاصفة.
ولأن الأوطان تُبنى بأيدي الرجال الذين يؤمنون بالمعنى،
فإن تجربة البروفيسور محمود الميسري ليست مجرد قصة نجاح،بل درس في أن بناء الجامعة هو بناء الوطن، وبناء الطالب هو حماية المستقبل.