في اليمن، لا تُدار الحرب لتُحسم… بل لتبقى معلَّقة كجسرٍ من نارٍ بين سلامٍ غائبٍ وقرارٍ مغيّب.
سلامٌ يُعلن في الصباح على شاشات العالم، ثم يُدفن ليلًا في دهاليز العواصم. اتفاقات تُوقَّع، وهدن تُمدَّد، وأحلام تُجمَّد… وكأن هذا البلد كُتب عليه أن يعيش في حالة “اللا انتهاء”، فلا هو في حربٍ كاملة ولا في سلامٍ يُنهي الألم.
تُدار الأزمة لا لتُحل، بل لتُعاد صياغتها بما يضمن بقاءها. سلامٌ بلا سيادة، وقرارٌ بلا إرادة… وبلدٌ يُراد له أن يكون حاضرًا بالاسم، غائبًا بالقرار.
في المشهد اليمني الراهن، يبدو أن العالم قرّر لليمن سقفًا لا يتجاوزه.
سلامٌ مقيد بشروط الخارج، تُمنح له الهدنة كجرعة تخدير، وتُسحب عنه السيادة كأنها ترفٌ لا يستحقه.
كل اتفاق سلام يتحول إلى وثيقة تجميد، تُبقي النار خامدةً لا مطفأة، وتُبقي القرار في أيدي من يتحكمون بالمشهد من بعيد.
فاليمن، في نظر اللاعبين الدوليين، ليس وطنًا ذا إرادة، بل ملفًا وظيفيًا يُستخدم في توازنات القوى: كلما اشتدت معارك النفوذ في الإقليم، أُعيد تحريك ملف اليمن كورقة ضغط، ثم أُعيد إلى مكانه حين تهدأ الساحة.
هكذا تحوّل السلام إلى مسرحٍ من الخداع السياسي؛ هدنة لا تعني الأمان، واتفاق لا يعني السيادة.
ما يُؤلم في المشهد اليمني ليس حجم الدمار، بل عمق الارادة المسلوبة.
لقد جُرّد اليمنيون من حقهم في تقرير مصيرهم، وسُلبت منهم سيادتهم بأدوات ناعمة: بيانات دعم، ووعود إعمار، ومشاريع إنقاذ… وكلها تُدار بخيوط دقيقة تشدها أيادٍ خارجية تعرف كيف تُبقي اليمن في حدود الدور المرسوم له.
هكذا أُفرغ القرار اليمني من مضمونه الوطني، وأُعيد تشكيله ليُناسب ميزان القوى الخارجية.
حتى الأصوات التي تتحدث باسم اليمن باتت تُدار خارج حدوده.
فمن يوقّع باسم اليمن، لا يملك حق الرفض، أو أن يتحدث بصوت الوطن.
إنها مأساة القرار المسلوب؛ وطنٌ كامل يعيش تحت هدنةٍ مشروطة لا تُطلق النار، لكنها تُقيد الإرادة.
الزمن في هذه الحرب ليس طبيبًا يشفي، بل جلادٌ يطيل المعاناة.
كلما مرّ عام جديد من “التهدئة”، كانت جذور الأزمة تُغرس أعمق في تربة اليمن المنهكة.
الهدن لا تُنهي الحرب، بل تُعيد تدويرها بأسماء جديدة: اتفاق، تفاهم، مشاورات، مبادرات… وكلها تسير في الاتجاه ذاته: تجميد الصراع لا إنهاؤه.
لقد تحولت “الهدنة” إلى أداة لضبط إيقاع المشهد بما يخدم مصالح الخارج.
فالحرب لا تُترك لتشتعل، ولا يُسمح لها أن تخمد.
والسلام الحقيقي – سلام القرار والسيادة – يُؤجَّل دائمًا إلى إشعارٍ آخر.
لن يخرج اليمن من هذا النفق ما لم يدرك أن معركته الحقيقية لم تعد في الجبهات، بل في استعادة قراره الوطني من فم الوصاية الخارجية.
ذلك يتطلب يقظة شاملة لكل مكونات الشرعية والنخبة الوطنية:
١. على الحكومة الشرعية أن تُدرك أن الشرعية لا تُستمد من الاعتراف الخارجي فقط، بل من قدرتها على امتلاك القرار الوطني المستقل، وبناء الثقة الشعبية على أساس الشفافية والفاعلية.
الشرعية التي لا تملك حق الرفض ولا تفرض أولوياتها الوطنية، تتحول من فاعل إلى تابع.
٢. على الأحزاب السياسية أن تغادر مربع الحسابات الصغيرة وأن تعود إلى فكرة الوطن الواحد.
فحين تصغر الأجندة، تكبر الوصاية. وحين ينقسم الصف، يُعاد رسمه بأقلام الخارج.
٣. على منظمات المجتمع المدني والإعلام الوطني أن ترفع الصوت في وجه هذا الخداع الدولي المنمّق باسم الإنسانية.
فالحرب لا تُدار بالسلاح فقط، بل تُبرَّر بالخطاب، وأخطر أنواع الوصاية هي تلك التي تُفرض عبر الرواية.
٤. على الأقلام اليمنية الحرة أن تكتب لتوقظ لا لتجمّل، أن تزرع في وجدان الناس أن السلام ليس وثيقة توقّع، بل قرار يَولد من إرادةٍ حرة وشعبٍ يرفض أن يُدار كموضوع في ملفات الآخرين.
العالم يتحدث عن السلام، لكن أحدًا لا يسأل: أي سلام؟ ولمن؟ وبأي ثمن؟
الهدن التي تُمنح لليمن ليست هدية، بل قيدًا ناعمًا يُبقيه في حالة انتظارٍ طويلة.
وكلما طالت الهدنة، ازداد تآكل السيادة.
لقد صار صمت الداخل هو الوقود الذي يمدد عمر الأزمة.
فحين يصمت الوطنيون، يتكلم الوكلاء.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لوطنٍ جريح، أن يُقنعه الآخرون أن خلاصه بيد غيره.
اليمن لا يحتاج إلى وصيٍّ يكتب عنه شروط السلام، بل إلى وعيٍ يرفض أن يُكتب باسمه ما لم يقرره بنفسه.
حين يستعيد اليمنيون وعيهم الجمعي وإرادتهم السياسية الحرة، لن يجرؤ أحد على رسم مصيرهم من خارج حدودهم.
فالسلام لا يُمنح لمن ينتظر، بل لمن يقرر… واليمن، إن قرر أن ينهض، لن يستطيع أحد أن يعيده إلى طاولة الوصاية من جديد.
---
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الاثنين ٣ نوفمبر ٢٠٢٥م