في دهاليز السياسة الدولية، لا تُذكر اليمن بوصفها دولة تبحث عن خلاص، بل كـ ورقة تفاوض تُستحضر حين يحتاجها الآخرون، وتُطوى حين تنتهي الحاجة منها.
تارةً تُستدعى في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وتارةً في صفقات الطاقة أو الترتيبات الأمنية في البحر الأحمر، أو في تقاسم النفوذ في الخليج والقرن الإفريقي.
لكن الغائب الدائم في كل تلك الطاولات هو اليمني نفسه، لا أحد يسأله، ولا أحد ينتظر رأيه، بل يُتحدث باسمه، وتُرسم له مصائر لا يشترك في كتابتها.
🔹 منذ الانقلاب الحوثي واندلاع الحرب في ٢٠١٤م، تحوّل اليمن من قضية وطنية إلى أداة تفاوض إقليمية.
لم تعد الحرب اليمنية تُناقش كحربٍ تخصّ اليمنيين وحدهم، بل كملفٍ يُفتح ويُغلق وفق موازين القوى في المنطقة.
كلما توترت مفاوضات النووي بين واشنطن وطهران، ارتفع صوت المعارك في اليمن.
وحين تقترب التسويات الكبرى بين القوى الإقليمية، تهدأ الجبهات فجأة وكأن أزرارها تُضغط من خارج الحدود.
هكذا يُستخدم اليمن كصوتٍ إضافي في جوقة المساومات، لا كدولة ذات سيادة.
فمن يريد أن يساوم على نفوذه في الخليج يلوّح باليمن، ومن يريد أن يثبت قوته في البحر الأحمر يرفع شعار “الاستقرار الإقليمي” ويمر من بوابة اليمن، ومن يريد مكانًا في سوق الطاقة يضع اليمن على طاولة الحساب.
وفي كل ذلك، يبقى اليمنيون وقودًا للمشهد لا صُنّاعًا له.
🔹لا أحد يقول صراحة إن اليمن يُدار بهذه الطريقة، لكن كل المؤشرات تؤكد أن القرار اليمني يُعكس في مرايا الآخرين.
حين يتحدث الإيراني عن "دعم المستضعفين في اليمن"، فهو في الحقيقة يفاوض على موقعه الإقليمي.
وحين يتحدث الغرب عن “الملف الإنساني”، فإنه يُخفي وراء الخطاب الإنساني حسابات النفط والممرات البحرية.
حتى بعض القوى الإقليمية حين ترفع شعار “استعادة الشرعية”، تمارس هي نفسها شكلًا آخر من الوصاية على القرار اليمني.
اليمن أصبح مرآة تُرى فيها طموحات الآخرين، لا ملامحه الحقيقية.
إنها أخطر مراحل الحرب الناعمة، حين يُستبدل الوجود الوطني بالتمثيل الوظيفي، وحين يُعاد تعريف “المصلحة الوطنية” وفق ما تقتضيه موازين الغير لا مصلحة الشعب.
🔹كم من مرة أعلن مسؤول دولي أن "الحل في اليمن بات قريبًا"، ثم اختفى الحديث بمجرد تغيّر المزاج الإقليمي؟
كم من مبادرة طُرحت، ثم جُمّدت لأن ملفًا آخر لم يُحسم في مكان آخر من العالم؟
ذلك لأن الملف اليمني لم يعد ملفًا سياديًا، بل جزءًا من منظومة مساومات تُدار في العواصم الكبرى.
يُكتب عن اليمن، ويُقرر فيه، وتُحدَّد له المسارات، بينما شعبه ومؤسساته خارج الصورة.
حتى طاولة المفاوضات التي يُقال إنها “يمينة – يمنية” هي في حقيقتها ساحة لتمثيل الوكلاء الإقليميين.
كل طرف يحمل في جيبه تفويضًا غير مكتوب من داعمه الخارجي، لا من شعبه.
ولذلك، فإن أي اتفاق يُبرم بهذه الطريقة لا يُنهي الحرب، بل يُعيد ترتيبها على مقاس الوصاية الجديدة.
🔹أخطر ما يُمكن أن يصيب وطنًا، أن يُتفاوض عليه لا أن يُفاوض.
أن تُكتب شروط مستقبله في غيابه، وأن يوقّع الآخرون على مصيره بأيديهم.
في هذه الحالة، لا يصبح التفاوض وسيلة لإنهاء الحرب، بل أداة لاستمرارها بشكلٍ آخر.
فالحرب ليست دائمًا رصاصًا ومدافع… أحيانًا تكون قرارات ناعمة مكتوبة على الورق، لكنها تسلب وطنًا بأكمله صوته وحقه في قول “لا”.
اليمن يعيش هذه المأساة اليوم: تفاوض بالنيابة، وتمثيل بلا تفويض، وسلامٌ بلا سيادة.
وهنا يكمن لبّ الكارثة الاستراتيجية التي تمزق الوطن من الداخل وتكبله من الخارج.
🔹إن استعادة اليمن لقراره الوطني ليست مهمة سياسية فحسب، بل معركة وعي وكرامة وسيادة.
لن يُخرج اليمن من عباءة التوظيف الإقليمي والدولي إلا مشروع وطني موحّد يضع أولوياته من الداخل لا من بيانات الخارج.
على الحكومة الشرعية أن تدرك أن وجودها لا يُقاس بالاعتراف الدبلوماسي فقط، بل بقدرتها على أن تقول "لا" حين تُفرَض عليها الشروط التي تمس السيادة.
وعلى الأحزاب والقوى الوطنية أن تتحرر من تبعيات التمويل والإملاءات، وأن تعود إلى جذور الفكرة الجمهورية التي وُلدت لتقول: القرار للشعب لا للوصاية.
وعلى المثقفين والإعلاميين أن يكشفوا للرأي العام هذه المأساة المخفية، وأن يزرعوا في وعي الناس أن الكارثة ليست في الحرب ذاتها، بل في من يديرها ويستثمرها ويقرر متى تستمر ومتى تتوقف.
🔹سيبقى اليمن رهينة المساومات ما دام يتحدث الآخرون باسمه، ويُقرَّر مصيره من غيره.
لكن حين يُستعاد الصوت اليمني، وحين يرفض هذا الشعب أن يكون “موضوعًا في حوار الآخرين”، ستنتهي المتاجرة بآلامه.
فالوطن الذي يُستعمل كورقة لا يُكتب له النصر، لكن الوطن الذي يُقرر أن يكون طرفًا لا موضوعًا، يُعيد صياغة التاريخ.
إن أخطر ما يواجه اليمن اليوم ليس الحرب، بل السلام المشروط الذي يُصاغ في غيابه.
وحين يفهم اليمنيون أن استعادة القرار هي المعركة الحقيقية، سيتحول التفاوض من صفقة إلى سيادة، ومن ورقة إلى راية… ومن وطنٍ يُتداول، إلى وطنٍ يقرّر مصيره بنفسه.
،،،،،،،،
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الثلاثاء ٤ نوفمبر ٢٠٢٥م