بالنسبة للجنوبيين، لم تكن "الشراكة" يومًا مرادفًا للسلام، بل تعني في جوهرها الحرب، المعلنة منها والخفية. فقد
بدأت ملامح هذه الحقيقة تتجسد منذ فُرضت عليهم الشراكة مع “الشرعية” عقب تحرير الجنوب من الحوثيين وقوات
صالح عام 2015، لتليها مباشرة سلسلة من الإقصاءات والتضييقات التي تصاعدت حدتها مع تشكيل المجلس
الانتقالي الجنوبي في مايو 2017.
منذ ذلك الحين، تتالت الأحداث وتعددت جبهات الصراع ضد الجنوب؛ بدءًا من تنظيم القاعدة، مرورًا بجهات داخل
الشرعية (خصوصًا حزب الإصلاح)، وصولًا إلى أشكال من التخادم مع الحوثيين. كان الهدف الواضح هو
استنزاف الجنوب واختراق نسيجه الاجتماعي عبر شراء الولاءات وتأجيج الخلافات الجنوبية المتوارثة.
خاض الجنوبيون حروب استنزاف متواصلة، وحرروا مناطقهم أكثر من مرة، ودخلوا في مواجهات عديدة حتى تم
التوصل إلى اتفاق الرياض، في شراكة أخرى لا تقل مرارة. ومع ذلك، لم تتوقف الحرب، بل تحولت إلى حرب
اقتصادية وخدمية تستهدف إنهاك المجلس الانتقالي وكسر إرادة الجنوب.
ورغم كل ذلك، حافظ الجنوب على صموده، مستندًا إلى الصبر السياسي والحضور الدبلوماسي في مواجهة ضغوط
الشرعية وبعض القوى الإقليمية والمتغيرات الدولية. كما تصدى المجلس الانتقالي للمبادرات التي تجاوزت إرادة
الجنوبيين، ما أدى إلى تجميد مسار مباحثات وقف الحرب مع الحوثيين. وفي الوقت نفسه، سعى المجلس لانتزاع
اعتراف دولي بالقضية الجنوبية ودوره في مكافحة الإرهاب والتصدي للحوثيين، إلا أن هذه الجهود لم تُترجم إلى
اعتراف سياسي واضح بحق الجنوب في تقرير مصيره.
اليوم يعود الحديث عن “اتفاق شامل” لحل الأزمة اليمنية بصيغة شراكة جديدة مع الحوثيين، تتضح ملامحها من
خلال تحركات المبعوث الدولي ودعم بعض الدول الإقليمية، في محاولة لإحياء اتفاقٍ رفضه الجنوب قبل عامين.
والحقيقة أن أي اتفاق يُطرح تحت عنوان “الشراكة” دون ضمان حقوق الجنوب ليس سوى إعلان حرب جديدة،
خاصة بعد التضحيات الجسيمة التي قدمها الجنوبيون خلال السنوات العشر الماضية، وما قبلها منذ انطلاق الحراك
الجنوبي عام 2007.
بالنسبة للجنوبيين، فإن القفز على إرادتهم يعني الموت، وأي مبادرة تُفرض عليهم تعني حربًا لا سلامًا. فرغم
الظروف القاسية وشحّ الخدمات، ما زالوا متمسكين بحريتهم وكرامتهم وحقهم في إدارة أرضهم. وكل الاتفاقات
الهشّة المبنية على مساومات مؤقتة ومصالح متضاربة مصيرها الفشل، لأن الجنوب لن يفرّط بتضحياته لإرضاء
الحوثيين أو لتمرير مشاريع تُعاد تغليفها باسم “الشراكة”.
اليوم يقف الجنوب على مفترق طرق تاريخي، مدركًا أن أي تسوية لا تضع قضيته وحق شعبه في تقرير مصيره
في الصدارة ليست سوى محاولة لإعادة إنتاج الوصاية بأسماء جديدة. فإما سلام حقيقي يقوم على الاعتراف والإرادة
الشعبية، وإما أن تظل “الشراكة” غطاءً لحرب جديدة يُراد إشعالها، وسيدفع الجنوب ثمنها مرة أخرى. وعلى القوى
الإقليمية والدولية أن تدرك أن مفتاح الاستقرار في اليمن والمنطقة يبدأ من إنصاف الجنوب، لا من تجاهل وجوده
ومستقبله.