حين ينكسر العمود الفقري للدولة، لا يكفي أن تُعطى جسداً جديداً من الخارج ليُنهضها.
فالإعمار في زمن الارتهان يمكن أن يتحول من فعل إنساني إلى أداة سيطرة، ومن منحة إنقاذ إلى وثيقة وصاية.
يمنٌ مثخن بالجراح، لا يعاني فقط من دمار المباني، بل من دمار القرار؛ إذ تُطرح الأموال والمشروعات وكأنها خلاص، بينما تُسلم في المقابل مفاتيح السيادة لمن لا يريد لليمن أن ينهض إلّا وفق مقاس مصالحه.
🔹 لم يعد المال وسيلة لإعادة البناء، بل أداة لإعادة رسم النفوذ.
من يملك العقد يملك السوق، ومن يملك السوق يكتب الشروط السياسية، ومن يكتب الشروط يرسم مستقبل السلام أو يؤجّله.
بهذه المعادلة، تحوّل الإعمار من وعدٍ بالاستقرار إلى مسرحٍ لتصفية الحسابات الاقتصادية والسياسية بين قوى الخارج، وسط صمت الداخل أو تورطه.
ولم يقف الأمر عند النفوذ الدولي، بل تمدد إلى الداخل ذاته.
فبعض من يُفترض أن يكونوا حراس القرار الوطني في الحكومة الشرعية، أصبحوا هم بوابة النفوذ الخارجي عبر منح وتمويلات خارجية تُمنح باسم “المشروعات التنموية”، لكنها في حقيقتها أدوات ولاء سياسي واقتصادي.
تحوّلت تلك المنح إلى مراكز نفوذ شخصية، تُدار خارج إطار الخطة الوطنية للاستثمار والإعمار، وتُنفذ وفق حسابات الممول لا مصلحة الدولة.
وباتت بعض المشاريع تُبنى في الظل، بلا شفافية، تُزيَّن بشعارات التنمية بينما تُعمّق الاختراق المالي والسياسي في مؤسسات الدولة.
🔹 لماذا يُؤجَّل السلام من أجل التمويل؟
لأن السلام الذي يمنح اليمنيين قرارهم يهدد مصالح من اعتادوا التحكم فيهم.
كل صفقة إعمار كبرى تُقرّ ضمانات وامتيازات وولاءات طويلة الأمد، تُعيد ترتيب موازين القوى بين الدول، لا بين اليمنيين. لذلك، يُبقى السلام مؤجلًا كي لا تُقفل أبواب النفوذ.
🔹 أثر التمويل المشروط على البنية الوطنية
النتيجة لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بالأرواح والوعي والسيادة.
فالمشاريع الموجّهة من الخارج تخلق أسواقًا موازية تُقصي الشركات المحلية، وتُفرّخ مصالح فئوية ترتبط بالممولين بدل أن ترتبط بالوطن.
وبذلك يتعزز الفساد، وتُصاب الدولة بالشلل المؤسسي، بينما تُرسم الجغرافيا الاقتصادية بناءً على الولاءات لا الكفاءة.
وفي ظل هذا المشهد، لم يعد الإعمار جسرًا نحو السلام، بل أصبح أداة تقسيم ناعمة.
تُبنى مناطق على مقاس قوى النفوذ، وتُترك أخرى في العتمة، ليولد ما يمكن تسميته اقتصاد "السلام المشروط" — سلامٌ بلا عدالة، وإعمارٌ بلا سيادة.
🔹 نحو استراتيجية وطنية للاستقلال المالي والسيادي
الخروج من هذا النفق لا يكون برفض التمويل، بل بإعادة تعريفه.
فالمال الذي لا يحترم القرار الوطني ليس عونًا، بل عبء.
وهنا ملامح طريق تُعيد للدولة سيادتها على مواردها ومصيرها:
١. شفافية مشروطة بالسيادة
لا إعمار بديونٍ تُكتب في الظل، ولا مشاريع تمنح امتيازات تتجاوز رقابة الدولة. يجب أن تُعلن عقود الإعمار ويُراجع كل بند أمام الشعب والمؤسسات الرقابية.
٢. أولويات وطنية تُحدَّد في الداخل لا في السفارات
لتُبنَ المشاريع وفقًا لاحتياجات المواطن، لا وفق جدول الممول.
فالمياه، والكهرباء، والصحة، والتعليم هي مشاريع سيادة بقدر ما هي خدمات.
٣. مشاركة محلية حقيقية في القرار والتنفيذ
إشراك المحافظات والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني في كل مرحلة يخلق مناعة ضد الفساد، ويضمن أن يبقى العائد داخل الوطن لا خارجه.
٤. صندوق وطني لإعادة الإعمار تحت رقابة مستقلة
لا بد من إنشاء كيان وطني موثوق يخضع لتدقيق علني ويمنع تمرير الأموال عبر قنوات الولاء السياسي أو المصالح الشخصية.
٥. تحصين الموارد السيادية من الامتيازات طويلة الأمد
لا يجوز لأي اتفاق أن يمنح طرفًا خارجيًا إدارة أو امتيازًا طويلًا في قطاعات الطاقة والموانئ والاتصالات، فهي مفاصل القرار الوطني.
٦. إعادة تعريف دور المنظمات الدولية
لتكن شريكًا تقنيًا ومُمكِّنًا لا متحكمًا. تقدم الدعم، لا القرار. ترافق في البناء، لا تُملي خططه.
🔹 مسؤوليات وطنية لا تُؤجل
الحكومة الشرعية: مطالَبة اليوم بوضع إطار وطني موحَّد لمشروعات الإعمار يمنع تضارب المصالح ويوقف التعاقدات الفردية المشبوهة.
مجلس القيادة الرئاسي: عليه أن يَفصل بين أموال الدولة ومنح الولاءات، وأن يخضع كل تمويل لتقييم وطني، لا لميزان الحسابات السياسية.
الأحزاب والنخب السياسية: يجب أن تتوقف عن مقايضة السيادة بالمكاسب، وأن تتوحد خلف مبدأ الدولة لا خلف مانحي الدعم.
منظمات المجتمع المدني والإعلام: واجبهما كشف الحقائق، وتعزيز الوعي الشعبي بأن “المساعدة المشروطة” هي شكل جديد من أشكال الاحتلال.
🔹 الإعمار ليس منحة من الخارج، بل حقٌ وطني في الحياة بكرامة.
حين تُعطى الأموال مشروطة، تُبنى الجدران لكن تُهدم الإرادة.
وحين تُمنح المشاريع مقابل الولاء، يتحول المسؤول إلى وكيل لا قائد، والمجتمع إلى تابع لا شريك.
سلامٌ بلا سيادة ليس سلامًا، بل تسوية مؤقتة تُعيد إنتاج الوجع.
فليكن الإعمار لحظة استعادة لا خضوع، وبداية نهوضٍ يُكتب بيد اليمنيين وحدهم، على طاولات القرار الوطني الحر.
وحين يتحرر المال من الوصاية، ويتحرر القرار من الخضوع، سيولد السلام الذي لا يُشترى بالدولار، بل يُبنى بالعقل والإرادة والكرامة.
---
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الأحد ٩ نوفمبر ٢٠٢٥م