كم جثة احتاجها الإعلام العالمي لكي يتحرك، ويهتم بتغطية أحداث السودان؟
سؤال مرير يفرضه الواقع المؤلم لحرب دامية اندلعت في السودان منذ أبريل (نيسان) 2023؛ فقد تحولت شوارع الخرطوم وميادين دارفور إلى ساحات حرب شعواء، حصدت أرواح الآلاف وهجّرت الملايين، وأوقعت نحو 25 مليون إنسان في براثن الجوع وانهيار الخدمات الأساسية، ومع ذلك بقيت تلك المأساة خارج دائرة الأضواء الإعلامية العالمية لفترة طويلة.
لقد اندلع الصراع بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع»، تاركاً وراءه ما وصفه الخبراء بأنه «أسوأ أزمة إنسانية في العالم»، بل إن بعض منظمات الإغاثة الدولية وصفت هذه الأزمة بأنها «أكبر كارثة إنسانية مُسجّلة» في التاريخ الحديث. ورغم ذلك لم يحظَ هذا الصراع المرير بالاهتمام الواجب من وسائل الإعلام الدولية إلا متأخراً جداً. فلماذا ظلت حرب السودان حرباً منسيّة؟ وما الذي جعلها غائبة عن عناوين الأخبار حتى بلغت أعداد الضحايا والمآسي الإنسانية مستويات صادمة؟
بحلول أواخر عام 2025، ومع خفوت ضجيج المعارك في غزة، بدأت أنظار العالم تلتفت إلى الكارثة السودانية.
في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، انتهى حصار خانق دام أكثر من 500 يوم بسقوط المدينة في أيدي قوات «الدعم السريع». وفي أعقاب ذلك، حدثت تطورات مُرعبة سارع مراقبون إلى تشبيهها بالفظائع التي حدثت في رواندا إبان اليوم الأول من إبادة عام 1994. لم يكن أمام الإعلام الدولي حينها إلا أن يصحو على هول ما يجري في الفاشر؛ فالمأساة التي تجاهلها طويلاً بلغت حداً لا يمكن معه الصمت أو التذرع بعدم المعرفة.
هناك جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية التي أدت إلى تهميش مأساة السودان إعلامياً مقارنة بصراعات أخرى؛ فعلى الصعيد السياسي، لم تكن حرب السودان محطّ اهتمام القوى الكبرى بنفس قدر حروب مثل أوكرانيا أو غزة. لم يرَ الغرب في هذا الصراع تهديداً مباشراً لأمنه أو مصالحه الاستراتيجية؛ فهو ليس مواجهة مع قوة عظمى، ولا يرتبط بتحالفات دولية تصنع عناوين الأخبار.
في حرب غزة - على سبيل المثال - تبرز علاقة الولايات المتحدة الوثيقة بإسرائيل وحسابات الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية، مما يفسر التغطية المكثفة والتعبئة الدبلوماسية الهائلة حولها. وفي حرب أوكرانيا، كان التحدي الصريح بوجود روسيا على أعتاب أوروبا كفيلاً بأن يجعلها أولوية قصوى للإعلام الغربي، نظراً لما تحمله من أبعاد أمنية وسياسية عالمية.
أما السودان، فلا يمتلك تلك العناصر؛ فلا وجود لجالية ضخمة، أو لوبي سياسي في العواصم الغربية، يدفع باتجاه تسليط الضوء، ومسرح الأحداث بعيد جغرافياً عن دوائر النفوذ الغربية، ولا يؤثر في اقتصاداتها تأثيراً مباشراً. وهكذا افتقدت المأساة السودانية عامل الضغط السياسي الدولي، الذي غالباً ما يصنع التغطية الإعلامية الكثيفة.
ولم يكن مُستغرباً في ظل كل ذلك أن يصف بعض المحللين الدوليين هذا الصراع بأنه «الحرب التي نسيها العالم». يُضاف إلى ذلك تعقيد المشهد السوداني نفسه؛ إذ لا يوجد طرف «نقي» أخلاقياً يسهل التعاطف معه في سردية مُبسطة. فكل من طرفي الحرب تلاحقه اتهامات جسيمة بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين، مما جعل البعض ينظر إلى النزاع على أنه مجرد اقتتال داخلي بين أمراء حرب، وليس قصة إنسانية واضحة المعالم يسهل تسويقها إعلامياً.
إلى جانب الفتور السياسي الدولي، هناك عوامل متعلقة بطبيعة التغطية الإعلامية نفسها أسهمت في غياب السودان عن المشهد الإخباري. فقد كانت هذه الحرب بالنسبة إلى الإعلام «حرباً صامتة» تقريباً، فالبنية التحتية الإعلامية في السودان انهارت تحت وطأة القتال، ولم يكن باستطاعة المراسلين الأجانب الوصول بحرية إلى ميادين القتال.
إن مأساة السودان المنسية تدق ناقوس الخطر بشأن اختلال موازين التغطية الإعلامية الدولية، فلا ينبغي أن يُقاس اهتمام الإعلام بمعاناة شعب ما بمدى ما يحققه النزاع من مكاسب أو خسائر سياسية واقتصادية للدول الكبرى. لقد دفع شعب السودان الثمن الباهظ لصمت العالم وتراخيه، في تكرار مأساوي لعبارة «العالم يقف متفرجاً».
ومن قلب هذه المأساة تبرز ضرورة مُلحة لإعادة الاعتبار لمبدأ التوازن في التغطية الإعلامية؛ أي أن يولي الإعلام أهمية متساوية لمآسي البشر أينما كانوا، وأن يُركز على نقل معاناة الإنسان وأصوات الضحايا أينما ارتفعت صرخاتهم، لا أن ينجر فقط وراء النزاعات التي تنطوي على مصالح سياسية أو مادية. فكل روح بشرية تستحق أن تُروى قصتها، وأن تحظى بالنصيب العادل من الاهتمام والتعاطف، قبل أن يتكدس مزيد من الجثث، ويحين وقت التحرك بعد فوات الأوان.