آخر تحديث :الثلاثاء-18 نوفمبر 2025-05:07ص

عدن وحلم الرفاهية المستحيلة..

الإثنين - 17 نوفمبر 2025 - الساعة 08:40 م
محمد محسن الجوهري

بقلم: محمد محسن الجوهري
- ارشيف الكاتب


/محمد محسن الجوهري


لا تكاد تسمع في عدن حديثًا يعلو على حديث الماضي الذي يصوره أهلها كعصرٍ ذهبي، كانت فيه المدينة ــ كما يقولون ــ مركزًا اقتصاديًا مزدهرًا وواحة رفاهية يقصدها الجميع. ذلك الماضي تحول اليوم إلى حلم تتعلق به قلوب الصغار والكبار، يخففون به عن أنفسهم قسوة الواقع الذي يطوقهم منذ عقود.


فالمدينة، في أعينهم، تنحدر كل يوم إلى وضع أسوأ من سابقه، حتى باتت صورتها الراهنة أقرب إلى مدن الصفيح التي يخشون السقوط في مستواها. وبين ما كان وما صار، تبقى عدن أسيرة مقارنة موجعة، يطاردها حلم الرفاهية الذي يبدو أبعد من أي وقت مضى.


لكن الأقسى من هذا الواقع أن حلم الرفاهية ذاته بات وسيلة ابتزاز يتلاعب بها الغزاة والساسة. يلوّحون به كلما أرادوا إحكام قبضتهم أو تبرير نهب مقدرات المدينة، ويغذّون أملًا زائفًا يبقي عدن غارقة في فوضى مقصودة، حتى لا تستعيد مكانتها ولا تتحول يومًا إلى ميناءٍ أو بديل يهدد مصالحهم.


ومن هذا السياق، أصبح كثير من أبناء عدن ورقة تستغلها القوى المتسلطة، تدفع بهم إلى خطوط صراع لا تمثلهم، مستخدمة حاجتهم للعيش لإقناعهم بالانخراط في حروب لا تعود بالنفع عليهم ولا على مدينتهم. وهكذا، بدل أن يكون حلم الرفاهية بوابتهم إلى مستقبل أفضل، بات بعضهم يُقدَّم ــ نتيجة للاستغلال ــ كقوة عسكرية رخيصة توظَّف لتحقيق أهداف الآخرين، ما جعلهم أرخص مرتزقة في العالم بحسب الإعلام الغربي.


وللمؤسف أن ما تمرّ به عدن من أزمات ليس منفصلًا عن فكرة واحدة تكرّرت في تجارب عربية عديدة: التعلّق بحلم الرفاهية المطلقة والبحث عن حلول سريعة تُنقذ الحاضر بضربة واحدة. هذا الحلم، حين لا يستند إلى وعي واقعي، يتحول إلى فخّ تُستغل فيه تطلعات الناس لمشاريع ووعود لا تتحقق، بل تعيد إنتاج المعاناة بشكل أعمق. والتجربة العراقية شاهد بارز على ذلك؛ فقد أغرت الوعود الأميركية البعض بمستقبل اقتصادي زاهر، ثم وجدوا أنفسهم أمام واقع مضطرب أثقل البلاد بفوضى أمنية راح ضحيتها الملايين ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.


هذه الحالة من النهم والغباء السياسي تذكرنا بمقولات مأثورة لساسة غربيين سخروا من حال الشعوب المتعطشة للرفاهية، فالسياسي الأميركي توماس جيفرسون، وهو من المؤسسين للولايات المتحدة، حذر شعبه من الانجرار خلف وهم الرفاهية كون ذلك ينتهي بالتبعية للقوى المتسلطة، وكان يقصد بتلك القوى بريطانيا العظمى التي احتلت أميركا لقرون طويلة.


كما حذر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل شعبه من الانخداع بالدعاية النازية التي أطلقت وعودًا كثيرة للإنجليز، حين قال: "من يضحّي بالواقع من أجل الوعود، يخسرهما معًا". وهذا التنبّه يتقاطع مع تحذير المفكر والمؤرخ الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، الذي قال: "الشعوب التي تهرب من مشقة البناء، تجد نفسها في حضن من يستغل حاجتها"، في إشارة إلى خطورة الانجرار وراء الوعود الزائفة والسعي وراء رفاهية لا تُبنى بالعمل والوعي.


وفي نهاية المطاف، تظل عدن مثالًا حيًا على مخاطر التعلق بحلم الرفاهية المطلقة دون وعي بالواقع المحيط. فالأمل في العودة إلى زمن الازدهار، إذا لم يصحبه إدراك لقيمة العمل والمقاومة الذاتية، يصبح أداة استغلال وابتزاز بيد من يملكون السلطة والنفوذ. والدرس واضح لكل الشعوب: الرفاهية لا تُفرض بالوعود ولا تُستدان من الخارج، بل تُبنى بالصبر، بالجهد، وبالقدرة على مواجهة الواقع والتحديات، وكما قال الشاعر:


لا يرتقي شعب إلى أوج العلاء


ما لم يكن بانوه من أبنائه