حيدره محمد بسيول
النخب والمثقفين و(معركة الوعي)والتواصل الإيجابي مع الفئات المجتمعية المتعلمة والأقل تعليمآ،وصولا للتكتلات والأكثريات في مجتمعاتنا العربية،كانت جميعها مقومات مفقودة على وجهها الأصح والمفترض في كل الاحتجاجات والاعتصامات،والتي شكلت الثورات وأوصلتها إلى ما وصلت إليه في كل الأقطار..وهي العوامل التي ساهمت جميعها في كل ما وقع وحدث،وفي كل النتائج الكارثية وغير المتوقعة.
وتلك النخب لا زالت متأثره بما حدث في بلدانها،وإن كان المجموع الأكبر منها قد تأثر سلباً،وانسحب تمامآ من كافة مشاهد العمل العام..وهي بإنسحاباتها السلبية قد عمقت فارق الهوة بينها وبين الجماهير،لا وبل وقد ساهمت في تدعيم الثورات المضادة،وتخلت عن مسؤولياتها لشعورها الموغل بالهزيمة،وقد تفرق جميعها إما هجرة للمنافي،وإما سجنآ واعتقالآ،وإما بالسكوت التام،وإما بالسكوت الجبري.
ويعد مضي عقد ونصف العقد على تجربة الثورات بات من المؤكد بأن هناك غبن عارم يجتاح تلك النخب تجاه كل نتائج تلك الثورات..وليس إجحافآ أو تعسفآ إن قلنا بأن تلك الثورات لم تكن ثورات كاملة،ولكنها في الحقيقة لم تكن أكثر من أنصاف ثورات،وقد أفشلت وجيرت وحرفت مساراتها وتوجهاتها،وتم قلب مضامينها،وخونت وحوربت وأقصيت،وتنكر لها البعض من قادتها قبل أعدائها وخصومها.
وإذا كان من تفسير جاد وملتزم لحالة الفصام الحاد تجاه تلك الثورات فلن يكون غير أن دور النخب والمثقفين في تلك الثورات لم يكن دوراً مكتمل الأركان،ولم يصل بالجماهير لدرجة الوعي القادر على حماية مبادىء وقيم الثورات،والدفاع كما يجب عن تضحياتها الجسام..وبل أن معركة الوعي كانت قاصرة،ولم تكن قادرة على لجم كل المخاطر التي كانت تحوم من حولها،وذلك قبل أن تطيح الدول العميقة للأنظمة العسكرية بالثورات ونخبها وقادتها ومثقفيها.
ومما لا شك فيه أن تواصل تلك النخب مع الجماهير أيضآ لم يكن كافيآ ولم يكن كفيلآ بردع كل الالتفافات المضادة،وإذ أن النخب فجأة وجدت نفسها أمام لحظة تاريخية لم تكن في حسبانها،وتلك حقيقة وليست محاولة للقفز على الحقائق،وهو ما أدى إلى اختراق الكثير من الأطراف المناوئة للثورات،ولحشود الثورات وخطابها السياسي..ومن ثم عجزت تلك النخب عن قراءة المشهد العام للأحداث والتطورات،ومع مرور الوقت اكتشفت النخب أنها كانت تدور في حلقة من الهياج النخبوي البعيد عن الواقع.
وعلى صعيد متصل اخر كان واضحا وجليا أن النخب والمثقفين بعددهم وعديدهم لم يستطيعوا أن يرشدوا حركة الثورات،وكان تعاطيهم مع الاحداث أحيانا قد يأخذ طابع انتهازي ووصولي،وفي بعض من الأحيان كان يأخذ موقف الضد من الثورات،وتلك الضدية النخبوية كانت نتاج طبيعي لإنجرار بعض النخب للتحالف مع أطراف سلطوية في الأصل،وكانت وإلى قبيل اندلاع الثورات شريكة في الحكم والقرار..وهو الخطأ الفادح والذي تكرر في أكثر من حراك جماهيري.
وعلى الجهة المقابلة للحراك الجماهيري كان السلاح الأكثر تأثيراً للسلطات الحاكمة سلاح الإعلام الرسمي،والذي استطاع أن يشيطن صورة الثورات،واستطاع أن يضلل قطاعات واسعة من الجماهير فور أن تمكنت الأطراف الموالية للأنظمة الاستبدادية من استعادة زمام المبادرة والانقلاب على نتائج الثورات وحراكها..وبدل أن يخوض الإعلام الحزبي المعارض للنظام معركة وعي جامعة في بعض أقطار الربيع،انصرف ذلك الإعلام المعارض نحو تصفية حساباته مع الحزب الحاكم..وليس هذا فحسب،وبل وأنه اصطدم مع الكثير من المثقفين والسياسيين المعارضين عندما وجد أن مواقفهم تتعارض مع حساباته ومصالحه وخطابه كأعلام معارض.
ومن الأخطاء الفادحة للنخب المثقفة في خضم حالة التغيير التي اجتاحت شعوب الأنظمة العسكرية،أنها لم تستطع أن تردم الفجوة بين فكر الجيل العربي القديم وبين فكر الشباب،والذين يعود لهم الفضل في حشد الجماهير للخروج إلى الساحات والميادين،وذلك بفعل إتصالهم بلغة العصر والتكنلوجيا..وليست مصادفة البتة أن يعترف أحد المثقفين أنه لم يكن يعرف بما يدور في الشارع لولا أن أخبرته ابنته أنها ومجموعة من زميلاتها قد قررن النزول للشارع عبر الفيسبوك..ولدرجة أنه كان يعتقد أن الفيسبوك إذاعة راديو.
ومما حدى بأبنته بعدها أن تشرح له وتمارس دوره،وهي تقوم بتوعية عقله السبعيني،والذي ليس له علاقة بلغة العصر إبان اندلاع ثورات الربيع،وهذا يعني أن الغالبية من النخب والمثقفين كانوا أجيال مختلفة كليا عن أجيال الشباب التي أنتفضت وقالت كلمتها في ثورات الربيع،وهو ما يقودنا إلى التساؤل هل كانت النخب والمثقفين وبالآ على الثورات أم كانوا دافعين مؤثرين لإنطلاقها وتمددها..ولكن من المؤكد أن النخب والمثقفين قد فشلوا في إيجاد المشتركات الثابتة والقوية بينهم وبين أجيال الشباب،والتي أثبتت وبلا أدنى شك أنها لا تنتمي لعصر تلك النخب.
وقد تبدو الصورة قاتمة ومخيبة للآمال عند مراجعة واستعراض ما حدث،ومع كل تلك القتامة وكل تلك الأخطاء الفادحة فهذا لا يلغي أن فترات حالة التغيير التي حركتها الشعوب كانت فترات مجيدة هزت الوجدان الجمعي لآمال الناس وطموحاتهم النبيلة والعادلة،وستظل خالدة في وعي وإدراك كل من يعرفون قيم الحرية والكرامة..وقد تعود،وهي مرشحة وبقوة أن تعود،وذلك لأن الواقع العام ومنذ أن خفتت حركة التغيير أصبح أكثر وحشية وأكثر فسادآ وأكثر إهدارآ للحرية والكرامة والعدالة،ولا مفر من لحظة تقلب الطاولة فيها على كل من اعتقد ان لا كرامة ولا حرية للشعوب التي تصبر طويلآ على الظلم،وإن كان الصبر وقودها الذي سيعيدها جذعى.؟!