لا يحتاج اليمني اليوم إلى كثير من الذكاء ليدرك أن ما يجري حوله ليس صراعًا على وطن ولا حتى تنافسًا على مشاريع سياسية، بل هو كما وصفه الصحفي المخضرم فتحي بن لزرق بدقة جارحة صراع على “ضرع” جديد كلما جفَّ ضرع قديم. فما إن قرأتُ عبارته «سنوات طويلة ظلوا يتنقلون فيها بين امتيازات الدولة ومناصبها وأموالها وحينما جف ضرع الوحدة قرروا أن يرضعوا من ضرع الانفصال» حتى أدركت أن المشكلة ليست في السياسي، بل في هذا الشعب الذي يقبل أن يُدار بهذه السخرية. منذ جمعة الكرامة، حين هرول عشرات المسؤولين وعلى رأسهم علي محسن الأحمر إلى قناة سهيل يعلنون ولاءهم لـ”الثورة” بالمجان، بينما كانت أيديهم غارقة حتى المرفقين في خراب البلد، تتكرر القصة ذاتها بلا ملل. يصف بن لزرق تلك اللحظة بقوله «هتف الشعب فرحًا وهو يرى كومة اللصوص والنهابة تقفز من المركب الغارق إلى المركب الجديد»، وكأنه يجلد ذاكرة وطن اعتاد أن يستقبل الخونة بالأحضان، ويمنحهم فرصة جديدة ليغرسوا خنجرًا آخر في ظهره.
الذين قفزوا من الاشتراكي إلى المؤتمر بعد 1994، ثم من المؤتمر إلى الإصلاح، ثم من الإصلاح إلى “الثورة”، ثم من “الثورة” إلى الشرعية، ثم إلى الحوثي، ثم إلى الانفصال… لم يفعلوا ذلك بدافع رؤية ولا وطنية ولا صحوة ضمير. هؤلاء يغيرون جلودهم أكثر مما يغير الناس قمصانهم، ويتنقلون بين المشاريع حسب سخاء خزائنها فقط. الفضيحة ليست في أن السياسي كاذب، فالكذب جزء من أدوات السياسة في كل مكان. السياسي اليمني لا يراجع مواقفه؛ بل يراجع حساباته البنكية. لا يتحرك بضمير؛ بل يتحرك ببوصلة الامتيازات. لا يغيّر موقفه من أجل الوطن؛ بل لأنه وجد ضرعًا آخر أكثر امتلاءً. الفضيحة الحقيقية هي أن شعبًا كاملاً يقبل أن يكون وقودًا لهذه اللعبة. أن يقف في كل مرة تحت الشمس يصفق، يهلل، يهتف، ويعيد إنتاج جلاديه بيديه. “الشعب الأحمق والتائه يصفّق بحرارة”، هكذا قال بن لزرق، وهذه الجملة كافية لشرح لماذا لا يخرج اليمن من حفرة إلا ليقع في أخرى أعمق. خذ مثال المسؤولين الجنوبيين الذين ظلوا لعقود وحدويين أكثر من الوحدة نفسها، يتمتعون بالمناصب، السفريات، السيارات، الرواتب، الامتيازات، ثم حين رُكنوا في زاوية مظلمة اكتشفوا أنهم “انفصاليون”، وأن القضية الجنوبية “جريحة”، وأنهم رسلها المنقذون! يسخر بن لزرق من هذا التحول بقوله «استغرق القرار لدى بعضهم 18 عامًا ليكتبوا حرفًا واحدًا عن القضية». أي أنهم احتاجوا نصف عمر الإنسان تقريبًا ليجدوا فجأة أن الجبهة التي تقاتل تناسب مقاس مصالحهم الجديدة. وهؤلاء ليسوا استثناءً. الإصلاح، الاشتراكي، المؤتمر، الانتقالي، الحوثي… كلهم يمارسون ذات اللعبة سياسة بلا مبادئ، بلا ذاكرة، بلا خجل. لكن السؤال القاتل الذي يطرحه «متى سيصحو الناس؟» والإجابة المؤلمة ليس قريبًا… لأن الناس ذاتهم يهرعون كل مرة لتجميل صورة السياسي الذي يذبحهم. لأنهم يصدقون أن قرارًا جاء بعد سنوات من النوم هو “صحوة ضمير”، بينما هو في الحقيقة صحوة جيب. لأنهم ما زالوا يتعاملون مع السياسي كمنقذ، بينما هو كما يثبت التاريخ مجرد تاجر يبحث عن سوق جديدة. السياسي لا يحتاج أن يكون شجاعًا أو صاحب مشروع. يكفيه أن يعرف شيئًا واحدًا أن الشعب سينسى. وأن التصفيق مضمون. وأن الغنيمة جاهزة. وفي بلدٍ كهذا، يصبح السؤال لماذا يتغير السياسي؟ والأصح لماذا يتغير الشعب؟ والأصوب هل يريد الشعب أن يتغير أصلًا؟ سيظل السياسيون يرقصون فوق جراح هذا الوطن… وسيظل الشعب الموسيقى التي يرقصون عليها، حتى يستفيق من وهم اسمه “الزعيم”، “المنقذ”، “القائد”، “الرمز”. وحتى ذلك الحين… سيبقى اليمن يكرر مشهد السخرية ذاته ساسة ينهبون… وشعب يصفّق.