زارني أحد الأصدقاء المبجلين منذ القدم بعد غياب استمر سنة وستة أشهر. وكعادتي هللت وكبرت لقدومه، وهي عادتي كلما قصدني عقلاء القوم بوازعهم الوطني والقومي العربي.
قال لي قبل جلوسه ممازحًا وبصوت ممتعض:
عادك معلق صورة الرئيس رشاد؟ قد الجمهورية اليمنية كلها كرهته. لو كانت صورة الرئيس هادي عندك اطرحها ربما أفضل، أو أقولك نزلهم الاثنين، ولا تحمل الجدار فوق طاقته، ولا تقيّد عيوني عن حريتها بالنظر.
قلت له كما قال الدكتور عبدالكريم الإرياني رحمه الله:
أنا مع الدولة ولو كانت رمادًا.
رحبت به، ودخلنا في موجة ضحك هستيرية لبعض المواقف الآفلة، وأخذتنا متعة اللحظات إلى مرحلة التنمر الذي يجيده ضيفي، تارة في قسوة معيشتي، وتارة في الشيب الذي غزاني قبل أن أرى بلادي تبكي فرحًا بنشوة الانتصار واستعادة الدولة من أيدي أقبح انقلاب.
لم أعهد صديقي من قبل مصادمًا، لا في الجد ولا في الهزل، لكن يبدو أن ضجيج الأيام الماضية وأحداث حضرموت وما تبعها قد أثرت عليه، وجعلته ثائرًا بلا دولة ولا جمهور.
تحدثنا في مجمل القضايا ولوقت طويل لم أعهد نفسي منذ زمن قريب قادرة على الحديث المطول، لندرة الآذان الصاغية المحللة والمنفذة. كانت تلك المدة من الحديث العميق والمطول الأقرب إلى ذكرى قديمة، كلما استعدتها انفجرت ضاحكًا، وحتى وأنا أكتب هذه الكلمات الآن لا أتمالك نفسي من الضحك.
تلك الذكرى كانت في عام 2016 عندما استضافتني قناة الـBBC للحديث عن الأحداث في اليمن بعد الانقلاب المشؤوم. كان المذيع المستجد يسألني سؤالًا فأجيبه، ثم يعاود طرح السؤال نفسه ولكن بطريقة أخرى، فأجيبه وأقول له في ختام إجابتي: وشكرًا على إعادة سؤالك الذكي.
ومن ضمن تلك الأسئلة التي أتذكرها أنه سألني:
ما هو تقييمك للرئيس علي عبدالله صالح بعد تحالفه مع الانقلاب؟
قلت له: الشعب هو من يقيم رئيسه الذي حكمه ثلاثًا وثلاثين سنة.
ثم عاد وطرح سؤالًا آخر:
لماذا يصر الرئيس علي صالح على استمرار تحالفه مع الحوثيين، ولماذا لا يطرق باب الشرعية؟
ابتسمت وقلت له: الجميع قد أخطأ، والرئيس صالح يريد التخلص من الحوثيين اليوم قبل غد، ولكن كيف تطلبون منه ذلك وأنتم لم تتخلصوا من التعبئة الإعلامية والسياسية التي ستعصف باليمنيين دون استثناء؟ وعلى الشرعية أن تطرق باب الرئيس السابق لأنها مسؤولة أمام الشعب وعلى عاتقها الخروج بالبلد إلى بر الأمان.
استمرت الأسئلة وطال اللقاء، فأردت المغادرة بطريقة لطيفة فقلت لهم تحت الهواء: المغرب أوشك على الدخول ويجب أن أغادر من أجل الإفطار. فقال المخرج: نحن لسنا في رمضان. فقلت له: معليش، أنا أصوم يومين في الأسبوع بنية انتهاء الحرب ورؤية حبيبتي أمي. فشعرت بعمق الأسى في أصواتهم.
قبل أن يغادر صديقي العزيز من منزلي طلب مني أن نجدول اللقاءات حتى نكسر معاناة المنفى، وطرح علي فكرة أنه يفكر في مغادرة السعودية برفقة أهله إلى جمهورية كرواتيا، وقال لي: ما رأيك أن نذهب سويًا؟ فعودة البلاد في الوقت الراهن شبه مستحيلة. وأضاف: ما جلستك؟ لا راتب ولا هم يحزنون.
قلت له: وأنت لماذا ستغادر ولديك قرار التعيين الوظيفي والرواتب المتعددة؟
فقال: يروح واحد هناك يستقر ويشوف أموره ويؤمن الأولاد بجوازات ودراسة.
لا يزال صديقي المتغير مؤخرًا يحدق بي متسائلًا: ليش ساكت؟
قلت له: تذكرت المثل الشعبي الذي يقول: اللي في الوادي يريد الجبل، واللي في الجبل يدور الفضاء.
ثم قلت له: شوف، أنا ذهبت إلى الأمريكيتين وأوروبا ودول عديدة في أفريقيا وآسيا، فوالله لم أجد بلادًا تشبه المملكة العربية السعودية وأهلها الكرام الذين نتشارك معهم الدماء والقيم والمصير. فلو خيّروني بين بلاد الدنيا لما اخترت سوى اليمن والمملكة. وبعدين، خليك هنا قريبًا حتى يكون لك شرف المشاركة في استعادة الدولة.
قال : ماشاء الله، وما فكرت تستقر بأي دولة ؟
قلت له : يا رجل أنتظر متى ينتهي المؤتمر الذي أتيت من أجله حتى أعود.
غادر وقرأت في عينيه أثناء الوداع أنه شعر أنني قد خذلته في العديد من المسائل ولم أنتصِر له، لكنني طلبت منه أن يعفو كما يعفو الكريم.
عدت إلى مجلسي أتابع ما ورد في هاتفي، وأجيب على من أرسل، وأتبادل النقاشات والرسائل مع بعض الكرام القريبين في السراء والضراء.
رفعت رأسي أبحث عن ريموت التلفزيون لأتابع بعض الأخبار المعادة أو المكررة عبر قنواتنا، وبما فيها من الصيغ البطولية التي نسمعها منذ عشر سنوات.
شدني الجدار من الأعلى وقد أصبح خاليًا من صورة الرئيس. قلت في نفسي ربما سقطت خلف التلفزيون، لكن عقلي لم يقبل هذا التبرير، لأني واثق أني ثبّتها بإحكام، ولأني أدرك تمامًا أنني حين أعلق صورة رئيس البلد أستحضر السيادة والدستور وكل الولاءات الوطنية.
بحثت هنا وهناك ولم أجد للصورة أي أثر، ولم يتبق سوى ذلك المسمار الصلب في جغرافيا الجدار الواسع.
أمسكت هاتفي واتصلت بمن ودعته قبل دقائق وقلت له: هل طابت نفسك؟ صورة الرئيس لم تعد موجودة على الجدار ولا أثر لها.
رد وهو يضحك: جلسنا سويًا ما يقارب أربع ساعات، وبما أنك تحترم السيادة كما ذكرت، فلزامًا أن تحترم حرية ضيفك وعيونه. ستجد الصورة وضعتها في خزانة التلفزيون، والله يعينك على الطلعة وعلى تثبيت صورة الرئيس .