آخر تحديث :الأربعاء-24 ديسمبر 2025-02:32م

في اليمن عندما تخون الدولة جيشها

السبت - 13 ديسمبر 2025 - الساعة 03:44 م
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


في اليمن، لم تعد الحكاية مجرد حربٍ طويلة أو صراع سلطات؛ بل تحولت إلى ملحمة من المرارة يشعر فيها الجندي اليمني بأن الدولة التي يفترض أنها تحميه وتقاتل من خلفه، قد تخلّت عنه في اللحظات التي كان فيها أحوج ما يكون إلى قرارٍ سياسي نظيف، وإلى قيادة تعرف معنى المسؤولية. ما حدث طوال سنوات الحرب ضد ميليشيا الحوثي، وفي مواجهة الانقلاب جنوب اليمن، يكشف عن انهيار عميق في علاقة الدولة بجيشها، حدّ أن الجندي بات يقاتل ليس فقط عدواً في الجبهة، بل وهناً في ظهره اسمه الحكومة. ففي مواجهة الحوثيين، تكررت المأساة بشكل مخجل. جبهات تنهار لا لأن الجنود هربوا أو تقاعسوا، بل لأن الدولة أغلقت هواتفها، وانشغلت بصفقات سياسية، ودفنت رأسها في رمال الارتباك. توقفت الإمدادات في لحظات مفصلية، وتحوّلت الجبهات إلى ساحات يُترك فيها المقاتل ليُستنزف وحده، وكأن الدولة كانت تخشى انتصار جيشها أكثر من خشيتها من تقدم الحوثيين. آلاف الجنود خاضوا معارك بلا غطاء، بلا ذخيرة كافية، وبلا قيادة تنظر للميدان إلا حين تكون الكاميرات جاهزة. إنها خيانة معنوية مكتملة الأركان، مهما حاولت السلطة تزيين المشهد بخطابات وطنية جوفاء. وإذا كان الشمال مسرحاً لانهيارات جبهات بسبب حسابات سياسية ضيقة، فإن الجنوب قدّم نموذجاً أكثر فجاجة. ففي لحظة المواجهة مع التشكيلات المسلحة الانفصالية، اكتشف الجيش أنه يُدفع إلى محرقة محسوبة مسبقاً يُؤمر بالقتال، ثم يُترك بلا دعم، ثم يُوبخ لأنه لم ينتصر في معركة مُصمَّمَة على ألا ينتصر فيها. ولأن الدولة نفسها كانت غارقة في الولاءات والتحالفات والمساومات، فقد كان جيشها آخر ما تفكر في حمايته. كانت الشرعية تتحدث عن “الدولة” لكن ممارساتها كانت أقرب إلى إدارة أزمة وجودها بالحيلة، لا عبر مؤسساتها. لم يكن الجيش في تلك اللحظات جيش دولة… بل جيش متروك في الهواء، يقاتل ليحمي سلطة لا ترغب في حماية نفسها. لم تكن المشكلة في ضعف الجيش، بل في ضعف الإرادة السياسية التي لم تعرف كيف تبني جيشاً وطنياً موحداً، أو ربما لم ترغب بذلك أصلاً. كانت مراكز القرار منقسمة، متداخلة، متصارعة، وأحياناً خاضعة لإملاءات خارجية تجعل من الجندي مجرد ورقة في معركة الآخرين. فساد عسكري، صفقات تسليح مشبوهة، قيادات تُعيَّن حسب الولاء لا الكفاءة، وقرارات مصيرية تُتخذ بناءً على مزاجات شخصية لا على تقديرات عسكرية… كل ذلك جعل الجيش يقاتل بينما قيادته مشغولة بترتيب نفسها لا بترتيب الجبهات. المأساة الأكبر أن الدولة كانت تريد جيشاً يموت من أجلها، لكنها لم تكن تريد أن تعيش من أجله. تريد منه أن يحمي “شرعيتها”، لكنها لا تحمي شرعيته كمؤسسة. كان الجندي يقدم روحه بينما السياسيون يقدمون تصريحات. كان الجندي يواجه الموت بينما القيادة تواجه اجتماعات الفنادق. لقد اختل الميزان حتى بدا أن الدولة لم تخن جيشها فقط، بل خانت فكرة الدولة نفسها. وفي نهاية المطاف، لا يمكن لبلد أن ينهض بينما جيشه يشعر بأنه يواجه مصيره وحده. لا يمكن لدولة أن تستعيد شرعيتها وهي تتنصل من شرعية أكبر شرعية الدم الذي بذله أبناؤها. الاعتراف بالخطيئة هو أول الطريق؛ الاعتراف بأن الدولة اليمنية، عبر حكوماتها المتعاقبة، خذلت الجيش في لحظات مصيرية، وتركت الجنود يواجهون الموت وهم يسمعون أصوات السياسة تتلاعب بمصائرهم من بعيد. في اليمن، عندما تخون الدولة جيشها، فإنها لا تخون مؤسسة عسكرية فحسب؛ إنها تخون مستقبلها، وتخون قدرتها على النهوض، وتخون آخر ما تبقى لها من قوة. واليمن لن ينهض ما لم تُعاد صياغة العلاقة بين الدولة وجيشها على أساس الاحترام والمسؤولية، لا على أساس الاستخدام ثم التنصّل. لا بد من أن تدرك السلطة أن الجندي ليس رقماً في كشوفات، بل آخر السدود التي تحمي البلاد من الانهيار الكامل. وعندما يسقط السد، لن يبقى شيء يستحق اللوم أو التبرير.