آخر تحديث :الأحد-21 ديسمبر 2025-12:06ص

حين يختزل العلم في إبرة!

الجمعة - 19 ديسمبر 2025 - الساعة 11:05 م
د. غسان ناصر عبادي

بقلم: د. غسان ناصر عبادي
- ارشيف الكاتب



سوء الفهم المجتمعي لمفهوم «الدكتور» وأزمة تقدير المعرفة...

في مجتمعاتنا، كثيرًا ما تختزل الألقاب العلمية في تصورات سطحية، ويختزل العلم ذاته في وظيفة واحدة أو مهارة بعينها، دون إدراك للفروق الجوهرية بين التخصصات والمسارات العلمية، ولعل لقب «الدكتور» من أكثر الألقاب التي تعرضت لسوء الفهم والخلط.


ذات يوم، تواصل معي أحد سكان الحي على عجل، طالبًا حضوري بشكلٍ عاجل، خرجت مسرعًا ظنًا أن أمرًا جللًا قد وقع، قال لي بلهجة قلقة:

«يا دكتور، معي ولدي مريض، نريدك تحقن له إبرة وتركب له دريب».


أوضحت له بهدوء أنني لست طبيبًا، ولم أمارس يومًا إعطاء الحقن، فأنا أستاذ جامعي أحمل درجة الدكتوراه في تخصصي الأكاديمي، غير أن هذا التوضيح لم يكن مقنعًا، بل قوبل باستغراب وسخرية من أحد الحاضرين:

«ألم أقل لك؟ الدكاترة غير متواضعين! يريدون الممرضين هم من يضربوا الإبر».


هنا تتجلى المشكلة الحقيقية: الخلط بين «الدكتور» كدرجة علمية، و«الطبيب» كمهنة إكلينيكية، فدرجة الدكتوراه هي أعلى درجة أكاديمية تمنح في مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية والتطبيقية، بينما الطب مهنة لها مسارها الدراسي والمهني الخاص، ولا يعني حمل لقب «دكتور» بالضرورة القدرة على ممارسة العمل الطبي.


ورغم الشرح الهادئ، جاء الحكم قاسيًا وساخرًا:

«يعني معك دكتوراه وما تعرف حتى تضرب إبرة!».


هذا الموقف، على بساطته، يعكس أزمة وعي مجتمعي أعمق، لا تتعلق فقط بالمصطلحات، بل بقيمة العلم ذاته، فالمجتمع الذي لا يميز بين الأستاذ الجامعي والطبيب، ولا يعرف معنى البحث العلمي، ولا يدرك دور الأكاديميين في بناء العقول والمؤسسات، هو مجتمع يضع المعرفة في خانة الاستهزاء، لا في موضع التقدير.


الأمر لا يتوقف عند سوء الفهم، بل يتعداه إلى النظرة النفعية الضيقة للعلم: ما لا يعالج ألمًا مباشرًا، أو لا يقدم خدمة فورية، يعد علمًا «فاشلًا» من وجهة نظر البعض، وكأن دور الأستاذ الجامعي، والباحث، والمفكر، لا قيمة له ما لم يكن قادرًا على إعطاء حقنة أو وصف دواء.


المفارقة المؤلمة أن هذا الاستخفاف بالعلم يتزامن مع واقع أكثر قسوة، يتمثل في تهميش الأكاديميين، وحرمانهم من حقوقهم الوظيفية، وتأخير مرتباتهم، وتعطيل ترقياتهم العلمية، في بلد يفترض أن يراهن على التعليم لا أن يفرّغ شهاداته من معناها.


إن احترام التخصصات، والتمييز بين المسارات العلمية والمهنية، ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة لبناء مجتمع واع، فالعلم لا يقاس بقدرتنا على «حقن إبرة»، بل بقدرتنا على صناعة وعي، وبناء إنسان، وتأسيس مستقبل.


وإلى أن يدرك المجتمع هذه الحقيقة، سيظل كثير من الأكاديميين يوصمون بالفشل، لا لقصور في علمهم، بل لقصور في فهم من حولهم لمعنى العلم ذاته.




أ. مشارك د. غسان ناصر عبادي