بينما تدخل منطقة الشرق الأوسط مرحلة جديدة من التصعيد غير المسبوق إثر اندلاع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، تبدو اليمن إحدى أكثر الساحات تأثرًا بهذه المواجهة، ليس فقط من حيث الارتدادات الجيوسياسية، بل باعتبارها ساحة نفوذ إيرانية مزمنة، وأرضًا هشّة مفتوحة لتأثيرات الصراعات الخارجية، وموطنًا لتنظيم مسلح يعدّ أحد أبرز أذرع طهران في المنطقة، وهو جماعة الحوثي.
اليمن في قلب العاصفة: خطوط الاشتباك غير المباشر
لطالما مثلت اليمن بعدًا استراتيجيًا في خريطة الانتشار الإيراني، وقد استخدمتها طهران كمنصة تهديد مباشرة لحلفاء واشنطن في المنطقة، ولسفن الملاحة الدولية في البحر الأحمر، عبر جماعة الحوثي التي تطورت قدراتها القتالية بدعم مالي وعسكري مباشر من إيران، بما في ذلك تكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيّرة. ومع اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران، تصبح اليمن ساحة مواجهة محتملة بالوكالة، وقد تشهد تصعيدًا غير مسبوق ينعكس مباشرة على أمن الإقليم والممرات البحرية.
ضربات إسرائيل لإيران: هل تضعف جماعة الحوثي؟
تشير المؤشرات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية إلى أن الضربات التي تستهدف المنشآت العسكرية الإيرانية، ولا سيما المرتبطة بالحرس الثوري وبرامج التصنيع العسكري، ستؤثر بشكل مباشر على القدرات اللوجستية لإيران في تمويل وتسليح أذرعها، وعلى رأسها الحوثيون. فهذه الجماعة تعتمد بشكل شبه كامل على الدعم الإيراني، من الطائرات المسيّرة إلى تكنولوجيا الاتصالات والتوجيه، والذخائر الدقيقة. وفي حال تم ضرب البنية التحتية الإيرانية التي تغذي هذا الدعم، فمن الطبيعي أن يتباطأ التدفق ويضعف المخزون الحوثي.
كما أن انشغال طهران بتداعيات الحرب على جبهتها الداخلية، سواء من ناحية الدفاعات الجوية أو الحفاظ على الشرعية الداخلية، سيؤدي إلى خفض أولوياتها في الخارج، وقد يتسبب في انقطاع أو تخفيف الدعم، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية والعقوبات الدولية. وبالنتيجة، فإن جماعة الحوثي قد تدخل في حالة تراجع تكتيكي أو إعادة تموضع قسري نتيجة فقدان الذراع الداعمة الأساسية.
فقدان شريان الإمداد الإيراني: تهديد وجودي للحوثيين؟
من المعروف أن جماعة الحوثي لا تمتلك قاعدة إنتاج عسكرية متطورة، بل تعتمد على تهريب الأسلحة عبر البحر ومن خلال حدود غير خاضعة لسيطرة الدولة، وهي شبكات تدار وتُموَّل وتُسلَّح مباشرة من قبل الحرس الثوري الإيراني. وتُشير التقارير الدولية إلى أن غالبية الصواريخ والطائرات المسيّرة المستخدمة من قبل الحوثيين تم تطويرها ونقلها عبر هذه الشبكات.
إذا ما تعرّضت إيران لضربات مركزة تُعطّل قدرتها على الإمداد، فإن الحوثيين سيواجهون تراجعًا سريعًا في قدراتهم، وهو ما قد ينعكس على توازن القوى في الداخل اليمني. وقد تضطر الجماعة إلى تقليص عملياتها، أو ربما انتهاج سياسات أكثر براغماتية تجنبًا لانهيارها الكامل.
فرصة للحكومة الشرعية: كيف يمكن الاستفادة من إضعاف الحليف الإيراني للحوثيين؟
تمثل هذه التطورات فرصة استراتيجية نادرة للحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها دوليًا. فإيران التي كانت مصدر التهديد الأكبر من خلال دعمها اللامحدود للحوثيين، أصبحت الآن في موقف دفاعي ضعيف، وهو ما يتيح للحكومة التحرك على مستويات عدة:
دبلوماسيًا: من خلال توجيه رسائل للمجتمع الدولي تؤكد العلاقة الوثيقة بين الحوثيين وطهران، وتُبرز أن استمرار دعم الجماعة يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي.
عسكريًا: بإعادة تنشيط الجبهات المجمّدة أو شبه الراكدة، مستفيدة من تراجع إمدادات الحوثي، خاصة في مأرب وتعز والساحل الغربي.
إعلاميًا: بشن حملة استراتيجية تربط تصعيد الحوثيين بأوامر خارجية، وتُظهر الجماعة كأداة في يد إيران، الأمر الذي يعزز من مشروعية الحرب ضدهم.
استخباراتيًا: بالعمل مع شركاء دوليين لتعقب وتعطيل أي خطوط تهريب بديلة قد تلجأ إليها إيران في حال تم تدمير خطوطها الحالية.
فرص السلام: هل تتقدم بعد إضعاف إيران؟
رغم أن تصعيد الحروب الإقليمية عادة ما يؤدي إلى تعقيد جهود السلام، إلا أن هذه الحرب قد تكون مختلفة. فإذا استمر الضغط العسكري والدولي على إيران، ونجحت الجبهة الغربية في تحجيم أذرعها، فإن الحوثيين سيجدون أنفسهم في مأزق تفاوضي حاد. فهم لا يملكون قاعدة اقتصادية أو بنية تحتية ذاتية تُمكنهم من الصمود لفترات طويلة بدون دعم خارجي.
وهنا يجب على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي استغلال اللحظة، بإعادة إحياء المسار السياسي، لكن على قاعدة واقعية تعكس التغير في موازين القوى. ويجب أن تركز أي مبادرة جديدة على إضعاف هيمنة الجماعة على القرار السياسي والعسكري، وتكريس دور الدولة الشرعية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب اليمني.
التداعيات الاقتصادية: هل يدفع اليمن الثمن مجددًا؟
بالتوازي مع الفرص السياسية، هناك تهديدات اقتصادية خطيرة تلوح في الأفق. فالحرب الإسرائيلية الإيرانية رفعت أسعار النفط عالميًا، وخلقت مخاوف من اضطرابات في مضيق هرمز، ما يعني ارتفاع تكاليف الشحن وأسعار الوقود في الدول الفقيرة، وعلى رأسها اليمن.
ومع اعتماد اليمن الكامل على الاستيراد، فإن أي ارتفاع في أسعار النقل أو الوقود سينعكس مباشرة على أسعار الغذاء والدواء، في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر. كما قد يؤدي ذلك إلى تعطيل برامج الإغاثة الإنسانية في حال تصاعدت المخاطر البحرية، أو تم تقييد حركة السفن الإغاثية.
المخاوف الخليجية والدور المرتقب للسعودية والإمارات
تشعر دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، بقلق بالغ من توسع رقعة النار الإقليمية، واحتمال تحوّل اليمن إلى منصة إطلاق هجمات إيرانية على منشآتهما الحيوية. ومع ازدياد احتمالات الردّ الإيراني غير المباشر، فإن الحوثيين قد يُطلب منهم لعب هذا الدور، ما قد يعيد إشعال الجبهات في الجنوب أو على الحدود الشمالية.
وهذا القلق قد يدفع دول الخليج إلى تعزيز دعمها العسكري والسياسي للحكومة اليمنية، وربما حتى توسيع نطاق العمليات الاستخباراتية والبحرية، تحسبًا لأي تصعيد. كما قد تُعيد هذه الدول تقييم أولوياتها في اليمن، وتضغط باتجاه تسويات سياسية أكثر توازنًا تُقلّص نفوذ الحوثيين.
اليمن بين فرصة استثنائية ومخاطر داهمة
ما بين اشتداد الحرب في الشرق الأوسط، وتراجع قوة الفاعلين الإقليميين، تقف اليمن على عتبة تحوّل حاسم. إن قدرة الحكومة اليمنية على الاستفادة من إضعاف الحليف الإيراني للحوثيين، وتحريك الجبهات السياسية والدبلوماسية والعسكرية بذكاء، قد تعني بداية استعادة الدولة من فم المجهول.
لكن في المقابل، فإن أي تهاون أو عجز عن استغلال اللحظة قد يفتح المجال لفوضى أكبر، وربما لتحول اليمن إلى ساحة ردّ مستمرة، يدفع فيها المواطن ثمنًا جديدًا من الدم والجوع والخوف.