يشهد اليمن في الوقت الراهن مرحلة شديدة الحساسية من حيث تركيبته الاقتصادية والمالية في ظل الأوضاع المعقدة التي تراكمت على مدى سنوات الانقلاب الحوثي والانقسام المؤسسي وضعف الموارد وتراجع النمو. وفي خضم هذه التعقيدات الداخلية العميقة، جاء التصعيد العسكري الراهن بين إيران وإسرائيل ليضيف طبقة جديدة من الضغوط المتشابكة التي قد تعمّق أزمات اليمن الاقتصادية وتدفع بها إلى مستويات أشد خطورة.
على مدار السنوات الماضية، عانى اليمن من انكماش حاد في الإيرادات العامة نتيجة فقدان السيطرة على جزء كبير من الموارد السيادية بما في ذلك النفط والغاز والجمارك، وهو ما أدى إلى تضخم غير مسبوق في عجز الموازنة العامة، جرى تمويله إما عبر طباعة النقود أو عبر منح خارجية محدودة وغير مستقرة. وقد انعكس هذا الوضع مباشرة على سعر صرف العملة المحلية التي تراجعت قيمتها بشكل مستمر مقابل الدولار، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطن اليمني وارتفاع مستويات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية تتجاوز الخطوط الحمراء المعروفة في مؤشرات الفقر الدولية.
وقد جاءت أزمة التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل في هذا التوقيت لتضع الاقتصاد اليمني أمام مخاطر جديدة مباشرة وغير مباشرة. فمن جهة، أدى استهداف منشآت الطاقة الإيرانية الكبرى إلى ارتفاع سريع في أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية، وهو ما ينعكس على اليمن بزيادة كلفة استيراد الوقود والمواد الأساسية، خاصة في ظل الاعتماد الكبير على الاستيراد لتغطية أكثر من 90% من احتياجات الغذاء والدواء والمشتقات النفطية. وفي ظل توقف معظم الموانئ النفطية اليمنية عن العمل جراء الاستهداف الحوثي الإرهابي المتكرر، فإنَّ الحكومة الشرعية لا تستطيع عملياً الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط لتعزيز إيراداتها، بل تتحمل فقط عبء الارتفاع في فاتورة الاستيراد.
أما من الناحية النقدية، فقد أسهمت هذه الأوضاع في زيادة الضغط على سوق الصرف الأجنبي، حيث يواجه البنك المركزي صعوبة متزايدة في توفير العملة الصعبة لتمويل الاستيراد في ظل محدودية الاحتياطيات النقدية وتراجع التدفقات المالية من الخارج، مع استمرار عمليات المضاربة في سوق الصرف وازدياد ظاهرة الدولرة في التعاملات التجارية المحلية.
يترافق ذلك مع مخاوف من انتقال آثار ارتفاع أسعار الطاقة إلى الأسواق اليمنية بصورة مباشرة عبر التضخم المستورد، مما يفاقم الأعباء المعيشية ويزيد من تعقيد المشهد الإنساني الذي يعاني أساساً من معدلات مرتفعة للجوع وسوء التغذية، مع تآكل مداخيل المواطنين في ظل الأجور الراكدة وارتفاع الأسعار المتواصل.
وفي البعد التجاري، تبرز أهمية موقع اليمن الجغرافي عند مدخل باب المندب، الذي قد يتحول إلى ساحة ساخنة في حال تصاعد التصعيد العسكري أو تهديد خطوط الملاحة البحرية، مما يرفع من كلفة الشحن والتأمين ويزيد من صعوبة تدفق السلع إلى الداخل اليمني في مرحلة حساسة. وتزداد خطورة هذا المسار مع احتمالية عودة الحوثيين الإرهابيين لمحاولة تحويل باب المندب مجددًا إلى نقطة توتر كما فعلوا في فترات سابقة، مستغلين ارتباطهم العضوي بإيران التي تمثل الداعم الرئيسي لهم سياسيًا وعسكريًا، مما يعقّد من حسابات أمن الممرات الدولية في ظل تصاعد المواجهة مع طهران.
إلى جانب ذلك، تبرز المخاوف من الأثر غير المباشر للتصعيد على التدفقات المالية الدولية نحو اليمن. إذ قد يؤدي اتساع رقعة الأزمات العالمية إلى إعادة ترتيب أولويات المانحين وتقليص حجم الدعم الموجه للملف اليمني لصالح أزمات أكثر سخونة في مناطق أخرى. كما أن استمرار حالة عدم اليقين قد تؤثر سلباً على حجم التحويلات المالية القادمة من المغتربين اليمنيين في دول الخليج إذا ما تأثرت اقتصادات تلك الدول بسبب تصاعد المخاطر الجيوسياسية المحيطة بها.
كل هذه التحديات تتقاطع مع هشاشة بالغة في أدوات السياسة النقدية والمالية في الداخل اليمني، حيث تعاني الحكومة من ضعف شديد في السيطرة على المنافذ الإيرادية وعلى إدارة النقد الأجنبي، مع استمرار اتساع الاقتصاد الموازي وضعف التنسيق المؤسسي في إدارة الموارد القليلة المتاحة.
وفي هذا الإطار، تبرز أيضاً فرص اقتصادية داخلية غير مستغلة حتى الآن يمكن أن تشكّل رافعة تخفيف نسبي للضغوط الراهنة إن تم تفعيلها بجدية. إذ أن الاستفادة من موقع ميناء عدن، الذي يشكل نافذة بحرية استراتيجية وآمنة نسبياً، ما زالت فرصة مهدرة كان يمكن أن توفر موارد مالية وفرص تشغيلية وتسهّل حركة التجارة بشكل يخفف من كلفة الاستيراد والخدمات اللوجستية. كما أن إعادة تشغيل مصافي عدن سيوفر مصدراً داخلياً للمشتقات النفطية يقلل من الاعتماد الكامل على الاستيراد، ويعيد تحريك قطاع استراتيجي يشكل أحد أعمدة الاقتصاد الوطني التقليدية. وبالتوازي، فإن تفعيل الهيئة العامة للاستثمار بصورة مؤسسية جادة مع إعداد حزمة حوافز متخصصة تراعي حجم المخاطر السياسية والمالية يمكن أن يشجع شريحة واسعة من المستثمرين المغتربين اليمنيين على ضخ جزء من مدخراتهم في قطاعات إنتاجية داخل المناطق المحررة، وهو ما يسهم في خلق دورة اقتصادية نشطة ذات طابع إنتاجي محلي بدلًا من الاعتماد المفرط على المساعدات والقروض قصيرة الأجل.
في ظل هذا المشهد المعقد، يمكن تصور ثلاثة مسارات محتملة لتطور الأوضاع. المسار الأول أن يستمر التصعيد العسكري في حدوده الحالية دون توسع إقليمي واسع، وهو ما يعني استمرار الضغط على الأسعار والمعيشة مع تدهور تدريجي في سعر الصرف وتفاقم أعباء الفئات الأشد فقراً. أما السيناريو الثاني فيقوم على احتمال توسع نطاق التصعيد ليشمل مضيق هرمز وربما تهديدات في باب المندب، وهو ما سيتسبب في ارتفاع حاد في كلفة الاستيراد وتراجع حركة التجارة، بما ينذر بأزمة حادة في وفرة المشتقات النفطية والمواد الغذائية والدوائية داخل اليمن. ويبقى السيناريو الأسوأ قائماً في حال وقوع اضطرابات كبرى في إمدادات الطاقة والممرات المائية أو تطور المواجهة نحو ضرب منشآت نووية، وهو ما قد يفضي إلى أزمة نقد أجنبي خانقة، وانهيار متسارع للعملة الوطنية، وانكماش شديد في واردات الغذاء والدواء، مع تفجر أزمة إنسانية غير مسبوقة.
ورغم هذا المشهد الثقيل، إلا أن هناك بعض الفرص المحدودة التي يمكن للسلطة الشرعية استغلالها إن أحسنت إدارتها بعقلانية وسرعة. ومن ذلك ضرورة التحرك العاجل لإعادة التفاوض مع الدول الداعمة لزيادة حجم المساعدات النقدية والسلعية، إلى جانب تعزيز وتنظيم عمليات تحصيل الإيرادات العامة في المناطق المحررة وفق آليات مالية وإدارية حديثة وشفافة، مع تحسين كفاءة إدارة الموارد وضمان استقرار نسبي في المالية العامة. كما تبرز الحاجة العاجلة لتكثيف التنسيق مع الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لضمان استمرارية تدفق المساعدات وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية عبر آليات استهداف ذكية تركز على الفئات الأكثر هشاشة.
في ضوء ما تقدم، فإن الحكومة اليمنية تواجه تحدياً مركباً يستلزم تحركاً متعدد المسارات يبدأ بتفعيل غرفة عمليات اقتصادية حكومية طارئة تعمل على مدار الساعة لمتابعة تطورات الأزمة وتقييم المخاطر المتجددة أولاً بأول، مع تفعيل الجهود الدبلوماسية لشرح الأثر الإنساني المتفاقم لهذا التصعيد على اليمن في المحافل الإقليمية والدولية، إلى جانب مراجعة سياسات إدارة النقد الأجنبي، وتعزيز كفاءة الإنفاق، وتسريع برامج الإصلاح المؤسسي والمالي بصورة متوازنة تضمن تقليل النزيف المالي دون تحميل المواطن أعباء إضافية مباشرة. كما تبرز الحاجة إلى فتح حوار اقتصادي داخلي جاد بين مكونات الشرعية المختلفة لإيجاد صيغة توافقية لضبط الأولويات الوطنية وضمان سلامة الأداء الاقتصادي في ظل هذا الظرف الدقيق.
إن حجم التحديات القائمة والمتوقعة يتطلب شجاعة في القرارات وحكمة في توقيتها، مع إدراك أن استمرار العمل بالآليات التقليدية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع بشكل يصعب السيطرة عليه في المستقبل القريب.