آخر تحديث :السبت-28 يونيو 2025-06:44م
أدب وثقافة

وارفة الظلال... (قصة قصيرة)

السبت - 28 يونيو 2025 - 03:22 م بتوقيت عدن
وارفة الظلال... (قصة قصيرة)
بقلم / عصام مريسي

الذكرى الأولى

امتدت أغصانها محلقة في الفضاء حتى غطى ظل أغصانها المتشعبة وكثافة أوراقها الخضراء المكتظة حول اغصانها كل أرجاء مقدمة المنزل الواقع على حافة الشارع وأمتد ظلال أغصانها الوارفة ليضع بساط من الظل كلما اشتد لهيب الشمس على جنبات الطريق المؤدي إلى الحي المكتظ بالمنازل الشعبية الصغيرة القريبة من المباني الشاهقة حيث اختلط الحي الراقي عالي المباني والبيوت العملاقة بسكان الحي الشعبي مع إستقرار الطبقة الأرستقراطية بمنازلهم العملاقة الشامخة إلى جوار الحي الشعبي.

وفي فصل الصيف تزهر شجرة المريمرة حتى يفوح عطر أزهارها البيضاء الصغيرة المنظومة حول قمة كل غصن وعنقه كأنها عقد من اللؤلؤ المنظوم بدقة وإحكام .

على الكرسي الخشبي العتيق تجلس العجوز التي تجاوز عمرها التجاعيد التي خطها الزمن بتقلباته على ملامح وجهها وعلى رأسها شال الململ مربوط بعصابة سوداء ودرعها ( ثوبها) الأسود الذي لم تغير لونه منذ توفي زوجها فلم تعد لها حاجة في ملذات الدنيا المختلفة.

باب البيت المبني من الطوب والخشب مفتوح يتدفق الهواء نحوه يرفع الستائر العتيقة حتى يكشف ما بداخل المنزل من أثاث قديمة قدم وجود العجوز على هذه الدنيا سرير مصنوع من الخشب وحبال من سعف النخيل وفرشه من حشو الصوف أو القطن أو الليف( مصنوع من لحاء الأشجار المبشور ) مغطى بمفرش منقوش بصور لبيت المقدس وحوله زرابي منقوشة بصور ونقوش هندسية وعلى جانب السرير سحارة( صندوق مصنوع من الخشب الهندي المعطر) ومحلى بنقوش هندسية ونجوم وهلال يملئ عبق عطره البيت بروائح عطرية تعيدها دائما للماضي عندما كان بيتها يضج بحركة أولادها الستة وزوجها قبل أن يغادروا المنزل ليختطوا لأنفسهم حياة جديدة بعيدا عن المنزل الذي احتضن طفولتهم وشبابهم.

كلما مر أحد سكان الحي ألقى على الخالة القابعة على كرسيها الخشبي العتيق التحية:

السلام عليك ياخالة

لم تكن الخالة مجرد جارة بل أصبحت علامة للحي القديم الذي قام على أطرافه حي جديد ليمتزج الماضي بموروثه الثقافي والإجتماعي بين أفراد الحي القديم ببيوته الشعبية القديمة ونفوس أهله الطيبين والبيوت الفارهة والعمارات العملاقة التي قامت إلى جانب من الحي الشعبي.

تغيرت ملامح السكان فقد غادر كثير من سكان الحي الشعبي إلى أماكن أخرى بعد بيع بيوتهم وتمدد البيوت الفارهة والمباني الشاهقة على أراضي الحي القديم الذي اندثرت بيوته وحل مكانها المباني العملاقة لكن الجدة لم تقتنع ببيع منزلها والإنتقال إلى مكان أخر مع كثرة محاولة من يريد شراء منزلها وتدخل الوسطاء:

ستسكنين في منزل واسع جديد البناء ويفيض معك مبلغ يكفيك نفقة ما بقيت على الحياة،

بإجابة واثقة وعن إقتناع:

لكن من أين لي بذكريات عمري في هذا المنزل العتيق. في كل ركن لي فيه ذكرى.. وكيف لي أن اتصور يومي دون رؤية ما تبقى من الجيران ومحاورتهم.. وكيف لي هجر شجرة النيم وارفة الظلال فكم جلسنا تحت ظلها الوفير أنا وزوجي وأولادي.. أنا مثل هذه الشجرة لن أترك مكاني إلا أن تنزع روحي من جسدي.

تعاود إلى ذاكرتها لحظة مفارقة زوجها الشيخ الكبير الذي كان يشاركها الجلوس تحت ظل النيم وأرف الظل يتجذبان الحديث لكنه في لحظة أصبح جسد خامد لا يتحرك ومن حوله رجال الحي يجردونه من ثيابه ويصبوا عليه الماء و جسده الملقى على سرير مصنوع من سعف النخيل يقلب عليه الجسد الذي فارقته الروح ويلف بالثياب البيضاء ويوضع على ألواح الخشب والعجوز في ذهول من فاجعتها برحيل شريك مشوار حياتها ترقب مشهد الوداع وكأنها خارج الحكاية وقبل أن يغادر الرجال وعلى أكتافهم النعش الذي يرقد عليه جسد زوجها وبعد أن غادر الجمع باب منزلها ينطلق صوتها المتحشرج الحزين:

قفوا.. أنزلوا النعش .. ضعوه أرضا

وقف الرجال وانزلوا النعش ووضعوه أرضا تحت ظل شجرة النيم وأرفة الظل .

تقبل العجوز بخطوات مثقلة بقدر سنوات عمرها الماضية وأثناء عبورها تستند على جدران المنزل القديم وكأنها في رحلة طويلة لتصل إلى النعش تمتد كلتا يديها نحو الثياب البيضاء تقلبها تفتح وثاقها وتكشف عن وجه شريكها الراحل فتكسر حاجز الصمت ببكائه وعويلها وصرخات الألم التي ستعيشها بعد رحيل شريكها تقدم وجهها نحو النعش وتقترب من الجسد الممتد عليه تشم رائحته وتقبله على جبينه حتى تتساقط دموعها الحارة على جسده:

رحلت وتركتني أعاني الوحدة وتقلبات الحياة وحدي.. لمن اشتكي وممن أطلب العون

هذه المرة لم توقظه حرارة دموع زوجته ولم يحس بألمها ويتفاعل مع حزنها سقطت دمعاتها ولم يرفع يديه نحوها ويمسح دموعها الحارة كما يحصل في كل مرة عندما تشتكي المصاعب والمشاكل والم فراق اولادها فيصبرها بكلماته الحانية الودودة .

يتقدم الجمع نحو النعش يقوم بعض الرجال بتغطية الجسد الراحل بإعادة الأكفان إلى وضعها السابق وأخذ الجدة بعيدا عن النعش حتى تستقر على الكرسي العتيق تحت ظل شجرة المريمرة الباسقة وأرفة الظلال.

يرفع الرجال النعش وينطلقوا نحو المسجد للصلاة على الجثمان والإنطلاق نحو المقبرة والعجوز المكلومة ما زالت تبكي وتصرخ وعينيها تذرف دموع الحزن والوداع على شريكها الراحل ومن حولها جمع من نساء الحي يحاولن إعادتها إلى داخل المنزل:

اصبري يا خالة .. عسى الله ان يجمعك به في الجنة

العجوز الموجوعة برحيل أخر أحبائها مازالت تنادي على جموع الرجال الذين يحملون النعش:

ارجعوا به ..كيف سأعيش وحدي

موكب النعش انطلق ولم يتوقف حتى توارى عن الأنظار والعجوز الأرملة مستندة على جذع شجرة النيم الواقفة بثقة إلى جوار منزلها لتمنحها الثقة بمواصلة الحياة بمفردها كما هي وحيدة.


عصام مريسي