تحليل سياسي موسّع – القسم السياسي | صحيفة عدن الغد
في اليمن، لم يعد الراتب استحقاقًا شهريًا ينتظره الموظف ليُسدد به ما عليه من التزامات، بل تحوّل إلى وثيقة نعي مبكر للطبقة الوسطى، وإعلان انهيار تدريجي للمجتمع ككل. بعد سنوات من الحرب والصراع والانقسام، أصبح الراتب لا يضمن حتى شراء وجبة واحدة في اليوم، ولا يفي بزيارة طبيب أو دفع أجرة مواصلات. إنها المأساة التي يعيشها أكثر من مليون موظف حكومي في أنحاء البلاد، موزعين على خارطة سياسية منهارة، واقتصاد ممزق، ومؤسسات فارغة من دورها، وسلطة غائبة تفرّ إلى الخارج كلما نادتها مسؤوليات الداخل.
بين انهيار العملة وسقوط الدولة
قبل الحرب، كان متوسط راتب الموظف الحكومي في اليمن يعادل ما بين 200 إلى 300 دولار أمريكي، يكفي لتأمين حياة معقولة، وإن لم تكن مثالية. أما اليوم، فقد تآكلت العملة المحلية بنسبة تفوق 90%، وباتت الرواتب تُصرف على شكل أوراق لا قيمة لها في السوق، لا تكفي لشراء كيس دقيق أو أنبوبة غاز. في مناطق الحكومة الشرعية، يتقاضى الموظفون رواتبهم بالريال اليمني الذي تجاوز سعر صرفه في السوق السوداء حاجز 1800 ريال للدولار الواحد، بينما في مناطق الحوثي توقفت الرواتب منذ عام 2016، وصار السكان هناك يعيشون على الإعانات والمساعدات الموسمية وبعض “الأنصاف” التي لا تُسمن ولا تُغني.
اليمنيون يأكلون مرة واحدة في اليوم!
لم يعد الفقر في اليمن مجرد أرقام في تقارير المنظمات الإنسانية، بل أصبح مشهدًا حيًا في كل شارع وزقاق وسوق. عدد كبير من الأسر باتت لا تستطيع توفير ثلاث وجبات في اليوم. في مناطق كثيرة، مثل تعز وعدن والحديدة والضالع، وحتى صنعاء، تعيش الأسر على وجبة واحدة فقط، غالبًا مكونة من الرز أو الخبز، في حين أصبح اللحم أو الدجاج من الأحلام الموسمية. التسوق لم يعد عادة أسبوعية، بل تحول إلى حدث نادر، تشوبه الحيرة بين شراء الزيت أو السكر أو الحليب، أما الذهاب إلى المطاعم، فقد أصبح رفاهية لا تُمارس إلا في المناسبات، أو من قبل الطبقة الجديدة من تجار الحروب والفساد.
زيارة الطبيب… مخاطرة لا يقدر عليها المواطن
الوضع الصحي لا يقل كارثية. فالموظف البسيط الذي يتقاضى أقل من 30 دولارًا شهريًا، لا يمكنه أن يذهب إلى طبيب خاص، ولا حتى مستشفى حكومي دون أن يواجه “قائمة طلبات” تبدأ بفحوصات باهظة، وأدوية غير متوفرة، وتنتهي غالبًا بتحويله إلى صيدلية خاصة بأسعار تفوق طاقته. في بعض الحالات، يختار المواطن الموت في بيته على أن يواجه مهانة سؤال الأطباء أو الممرضين أو دفع الديون. الراتب لم يعد يغطي قيمة دواء الضغط أو السكر، ولا حتى رسوم دخول الطوارئ في مستشفى حكومي.
الرواتب في عدن وصنعاء… ألم واحد بوجوه متعددة
قد يظن البعض أن المأساة تنحصر في منطقة دون أخرى، أو في حكومة دون غيرها، لكن الواقع يؤكد أن الجميع يتجرّع الكأس نفسها، وإنْ اختلف الطعم. ففي العاصمة المؤقتة عدن، تعاني القطاعات الحكومية من تدني الرواتب وتآكلها، مع عجز واضح في تقديم أي دعم أو حوافز موازية. أما في صنعاء، فالموظفون يعيشون على الأمل فقط. لا رواتب، لا حوافز، لا مساعدات دائمة. مجرد انتظار مؤلم لصرف نصف مرتب كل ستة أشهر، أو الإبقاء على الاسم في كشف “الهيكل” الوظيفي دون مقابل.
بلد بلا منظومة مالية… ومضاربة بالعملة في كل زاوية
لقد انهار البنك المركزي عمليًا، ولم يعد له تأثير يُذكر على السوق، لا من حيث الرقابة، ولا من حيث الاستقرار النقدي. السوق السوداء أصبحت هي المتحكم الأول في سعر الصرف، والبنوك التجارية والمصارف المحلية فقدت ثقة الناس، وأصبحت مجرد واجهات شبه خاوية. المواطن البسيط، حين يذهب لتسلّم راتبه، يجد أمامه قائمة انتظار طويلة، وسعر صرف متغير كل ساعة، وموظفين يقولون له: “انتظر التوجيه”.
هذا المشهد الاقتصادي لا ينعكس فقط في الأسعار، بل في طريقة الحياة اليومية. لم يعد هناك تخطيط شهري للأسرة اليمنية، بل حياة يوم بيوم، وكفاح مستمر لسد فجوة الجوع. الطفل لا يذهب إلى المدرسة لأن والده لا يملك ثمن الدفاتر، والأم لا تزور الطبيب لأنها لا تستطيع دفع قيمة الكشف. حتى الفرح، أصبح مؤجلاً إلى إشعار آخر.
غسيل الأموال… الاقتصاد الأسود يبتلع كل شيء
بموازاة هذا الانهيار، برز وجه آخر أكثر خطورة: غسيل الأموال. انتشرت في اليمن شبكات صرافة ومحلات تحويل أموال تتعامل بمبالغ ضخمة دون رقابة، وتُستخدم لتبييض أموال الحرب، وتهريب العملات، وتمويل شبكات خارجة عن القانون. في عدن وصنعاء والمهرة ومأرب، تظهر عشرات المحلات الجديدة شهريًا، بينما تُغلق المؤسسات الإنتاجية. الرأسمال الحقيقي هرب من اليمن، وترك الساحة لاقتصاد غير رسمي، تُديره قوى الحرب وتجار السلاح والمضاربة.
الكيانات المتناحرة… والجغرافيا المنهكة
ما زاد الطين بلّة، أن اليمن اليوم لم يعد بلدًا موحدًا سياسيًا أو إداريًا. بل تحول إلى كانتونات سياسية متنحرة، كل طرف يُدير شطرًا من البلاد وفق مصالحه، وبمعزل عن الرؤية الوطنية الجامعة. الشرعية في عدن عاجزة عن إدارة المؤسسات حتى في المناطق التي تُسيطر عليها، والحوثي في صنعاء يدير الدولة كملك شخصي. أما الأطراف الأخرى في الجنوب والغرب والشرق، فكلٌ يعمل على تثبيت موطئ قدم، دون اعتبار لما يحتاجه الناس أو ما تقتضيه مسؤولية الحكم.
هذا التشظي السياسي انعكس على توزيع الموارد، وأصبح المواطن ضحية للمناطقية والمحاصصة والانقسام. في بعض المناطق، لا تُصرف الرواتب إلا بعد تدخلات قبلية أو وساطات، وفي مناطق أخرى تُستخدم المرتبات كورقة ابتزاز سياسي.
أين الحكومة؟ أين المجلس الرئاسي؟
أمام كل هذا، يقف مجلس القيادة الرئاسي عاجزًا، تتآكله الخلافات، ويعيش في عزلة كاملة عن الداخل. الاجتماعات تُعقد في الرياض، والقرارات تُطبخ في الخارج، بينما الواقع في الداخل يغلي. لا توجد أي رؤية إصلاحية اقتصادية، ولا حتى خطوات رمزية لطمأنة الناس أو تثبيت الثقة. لا خطط لدعم الرواتب، ولا تحفيز للاستثمار، ولا مواجهة لتجار الحروب. والأدهى، أن معظم أعضاء الحكومة يتقاضون رواتبهم بالدولار، ويعيشون في عواصم آمنة، لا يرون فيها طوابير الغاز، ولا وجوه الناس المُنهكة من الجوع.
التحالف العربي والمجتمع الدولي… غياب يُفاقم المعاناة
ما من شك أن التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، يتحمل جانبًا كبيرًا من المسؤولية عن الوضع الاقتصادي في اليمن، باعتباره طرفًا محوريًا في دعم الحكومة وإعادة الشرعية. لكن، وعلى الرغم من تقديم بعض الودائع والمنح، إلا أن الدعم ظل موسميًا، بلا خطة إنقاذ واضحة، ولا رؤية استراتيجية شاملة. السعودية، التي تملك تأثيرًا حاسمًا في السياسة اليمنية، تقف اليوم أمام منعطف أخلاقي: هل ستترك حليفها يسقط؟ وهل ستكتفي بالمراقبة بينما ملايين اليمنيين يموتون جوعًا؟
أما المجتمع الدولي، فمواقفه باتت رمادية أكثر من اللازم. الأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة، والبنك الدولي، كلها تعلم أن أزمة اليمن ليست إنسانية فقط، بل سياسية واقتصادية عميقة، لكن الحلول التي تُطرح لا تتجاوز توزيع السلال الغذائية أو دعم مؤقت لبعض المشاريع. لا توجد إرادة دولية حقيقية لإنقاذ اليمن من الانهيار.
هل من مخرج؟
أمام هذا السقوط الحر، لا بد من تحرك عاجل، وشجاع، وصادق. ما يحتاجه اليمن اليوم ليس بيانات شجب أو مؤتمرات مانحين، بل إصلاح اقتصادي جريء يبدأ من:
• إعادة هيكلة الرواتب بما يتناسب مع سعر الصرف الفعلي.
• ضبط سوق الصرف، ومحاربة غسيل الأموال بصرامة.
• تفعيل البنك المركزي كمؤسسة مستقلة وموحدة.
• رفع مستوى الشفافية في إدارة الودائع والمنح.
• إطلاق برنامج دعم للموظفين والعائلات المتضررة.
• إنهاء الانقسام المؤسسي، وتوحيد السياسة المالية والنقدية.
وقبل كل شيء، لا بد من وجود إرادة سياسية حقيقية لإنقاذ الدولة، وإعادة الاعتبار للوظيفة العامة، باعتبارها أحد أركان الاستقرار.
خاتمة: هل ندق جرس الإنذار الأخير؟
إن بقاء الوضع كما هو، دون تدخل جذري، يعني أننا نسير نحو انهيار شامل لا رجعة فيه. الرواتب ليست مسألة مالية فقط، بل هي جوهر العلاقة بين الدولة والمواطن. وعندما تفشل الدولة في توفير هذا الحد الأدنى، فإنها تفقد مشروعيتها، وتُفتح الأبواب أمام الفوضى، والتفكك، والانتفاضات الشعبية.
في اليمن، الراتب أصبح صرخة… جوع، كرامة، وعدالة غائبة. فهل من يجرؤ على سماع هذه الصرخة قبل فوات الأوان؟كارثة الرواتب في اليمن: شعب يُكافح ليأكل مرة واحدة في اليوم، ودولة تُدار من الخارج
تحليل سياسي موسّع – القسم السياسي | صحيفة عدن الغد
في اليمن، لم يعد الراتب استحقاقًا شهريًا ينتظره الموظف ليُسدد به ما عليه من التزامات، بل تحوّل إلى وثيقة نعي مبكر للطبقة الوسطى، وإعلان انهيار تدريجي للمجتمع ككل. بعد سنوات من الحرب والصراع والانقسام، أصبح الراتب لا يضمن حتى شراء وجبة واحدة في اليوم، ولا يفي بزيارة طبيب أو دفع أجرة مواصلات. إنها المأساة التي يعيشها أكثر من مليون موظف حكومي في أنحاء البلاد، موزعين على خارطة سياسية منهارة، واقتصاد ممزق، ومؤسسات فارغة من دورها، وسلطة غائبة تفرّ إلى الخارج كلما نادتها مسؤوليات الداخل.
بين انهيار العملة وسقوط الدولة
قبل الحرب، كان متوسط راتب الموظف الحكومي في اليمن يعادل ما بين 200 إلى 300 دولار أمريكي، يكفي لتأمين حياة معقولة، وإن لم تكن مثالية. أما اليوم، فقد تآكلت العملة المحلية بنسبة تفوق 90%، وباتت الرواتب تُصرف على شكل أوراق لا قيمة لها في السوق، لا تكفي لشراء كيس دقيق أو أنبوبة غاز. في مناطق الحكومة الشرعية، يتقاضى الموظفون رواتبهم بالريال اليمني الذي تجاوز سعر صرفه في السوق السوداء حاجز 1800 ريال للدولار الواحد، بينما في مناطق الحوثي توقفت الرواتب منذ عام 2016، وصار السكان هناك يعيشون على الإعانات والمساعدات الموسمية وبعض “الأنصاف” التي لا تُسمن ولا تُغني.
اليمنيون يأكلون مرة واحدة في اليوم!
لم يعد الفقر في اليمن مجرد أرقام في تقارير المنظمات الإنسانية، بل أصبح مشهدًا حيًا في كل شارع وزقاق وسوق. عدد كبير من الأسر باتت لا تستطيع توفير ثلاث وجبات في اليوم. في مناطق كثيرة، مثل تعز وعدن والحديدة والضالع، وحتى صنعاء، تعيش الأسر على وجبة واحدة فقط، غالبًا مكونة من الرز أو الخبز، في حين أصبح اللحم أو الدجاج من الأحلام الموسمية. التسوق لم يعد عادة أسبوعية، بل تحول إلى حدث نادر، تشوبه الحيرة بين شراء الزيت أو السكر أو الحليب، أما الذهاب إلى المطاعم، فقد أصبح رفاهية لا تُمارس إلا في المناسبات، أو من قبل الطبقة الجديدة من تجار الحروب والفساد.
زيارة الطبيب… مخاطرة لا يقدر عليها المواطن
الوضع الصحي لا يقل كارثية. فالموظف البسيط الذي يتقاضى أقل من 30 دولارًا شهريًا، لا يمكنه أن يذهب إلى طبيب خاص، ولا حتى مستشفى حكومي دون أن يواجه “قائمة طلبات” تبدأ بفحوصات باهظة، وأدوية غير متوفرة، وتنتهي غالبًا بتحويله إلى صيدلية خاصة بأسعار تفوق طاقته. في بعض الحالات، يختار المواطن الموت في بيته على أن يواجه مهانة سؤال الأطباء أو الممرضين أو دفع الديون. الراتب لم يعد يغطي قيمة دواء الضغط أو السكر، ولا حتى رسوم دخول الطوارئ في مستشفى حكومي.
الرواتب في عدن وصنعاء… ألم واحد بوجوه متعددة
قد يظن البعض أن المأساة تنحصر في منطقة دون أخرى، أو في حكومة دون غيرها، لكن الواقع يؤكد أن الجميع يتجرّع الكأس نفسها، وإنْ اختلف الطعم. ففي العاصمة المؤقتة عدن، تعاني القطاعات الحكومية من تدني الرواتب وتآكلها، مع عجز واضح في تقديم أي دعم أو حوافز موازية. أما في صنعاء، فالموظفون يعيشون على الأمل فقط. لا رواتب، لا حوافز، لا مساعدات دائمة. مجرد انتظار مؤلم لصرف نصف مرتب كل ستة أشهر، أو الإبقاء على الاسم في كشف “الهيكل” الوظيفي دون مقابل.
بلد بلا منظومة مالية… ومضاربة بالعملة في كل زاوية
لقد انهار البنك المركزي عمليًا، ولم يعد له تأثير يُذكر على السوق، لا من حيث الرقابة، ولا من حيث الاستقرار النقدي. السوق السوداء أصبحت هي المتحكم الأول في سعر الصرف، والبنوك التجارية والمصارف المحلية فقدت ثقة الناس، وأصبحت مجرد واجهات شبه خاوية. المواطن البسيط، حين يذهب لتسلّم راتبه، يجد أمامه قائمة انتظار طويلة، وسعر صرف متغير كل ساعة، وموظفين يقولون له: “انتظر التوجيه”.
هذا المشهد الاقتصادي لا ينعكس فقط في الأسعار، بل في طريقة الحياة اليومية. لم يعد هناك تخطيط شهري للأسرة اليمنية، بل حياة يوم بيوم، وكفاح مستمر لسد فجوة الجوع. الطفل لا يذهب إلى المدرسة لأن والده لا يملك ثمن الدفاتر، والأم لا تزور الطبيب لأنها لا تستطيع دفع قيمة الكشف. حتى الفرح، أصبح مؤجلاً إلى إشعار آخر.
غسيل الأموال… الاقتصاد الأسود يبتلع كل شيء
بموازاة هذا الانهيار، برز وجه آخر أكثر خطورة: غسيل الأموال. انتشرت في اليمن شبكات صرافة ومحلات تحويل أموال تتعامل بمبالغ ضخمة دون رقابة، وتُستخدم لتبييض أموال الحرب، وتهريب العملات، وتمويل شبكات خارجة عن القانون. في عدن وصنعاء والمهرة ومأرب، تظهر عشرات المحلات الجديدة شهريًا، بينما تُغلق المؤسسات الإنتاجية. الرأسمال الحقيقي هرب من اليمن، وترك الساحة لاقتصاد غير رسمي، تُديره قوى الحرب وتجار السلاح والمضاربة.
الكيانات المتناحرة… والجغرافيا المنهكة
ما زاد الطين بلّة، أن اليمن اليوم لم يعد بلدًا موحدًا سياسيًا أو إداريًا. بل تحول إلى كانتونات سياسية متنحرة، كل طرف يُدير شطرًا من البلاد وفق مصالحه، وبمعزل عن الرؤية الوطنية الجامعة. الشرعية في عدن عاجزة عن إدارة المؤسسات حتى في المناطق التي تُسيطر عليها، والحوثي في صنعاء يدير الدولة كملك شخصي. أما الأطراف الأخرى في الجنوب والغرب والشرق، فكلٌ يعمل على تثبيت موطئ قدم، دون اعتبار لما يحتاجه الناس أو ما تقتضيه مسؤولية الحكم.
هذا التشظي السياسي انعكس على توزيع الموارد، وأصبح المواطن ضحية للمناطقية والمحاصصة والانقسام. في بعض المناطق، لا تُصرف الرواتب إلا بعد تدخلات قبلية أو وساطات، وفي مناطق أخرى تُستخدم المرتبات كورقة ابتزاز سياسي.
أين الحكومة؟ أين المجلس الرئاسي؟
أمام كل هذا، يقف مجلس القيادة الرئاسي عاجزًا، تتآكله الخلافات، ويعيش في عزلة كاملة عن الداخل. الاجتماعات تُعقد في الرياض، والقرارات تُطبخ في الخارج، بينما الواقع في الداخل يغلي. لا توجد أي رؤية إصلاحية اقتصادية، ولا حتى خطوات رمزية لطمأنة الناس أو تثبيت الثقة. لا خطط لدعم الرواتب، ولا تحفيز للاستثمار، ولا مواجهة لتجار الحروب. والأدهى، أن معظم أعضاء الحكومة يتقاضون رواتبهم بالدولار، ويعيشون في عواصم آمنة، لا يرون فيها طوابير الغاز، ولا وجوه الناس المُنهكة من الجوع.
التحالف العربي والمجتمع الدولي… غياب يُفاقم المعاناة
ما من شك أن التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، يتحمل جانبًا كبيرًا من المسؤولية عن الوضع الاقتصادي في اليمن، باعتباره طرفًا محوريًا في دعم الحكومة وإعادة الشرعية. لكن، وعلى الرغم من تقديم بعض الودائع والمنح، إلا أن الدعم ظل موسميًا، بلا خطة إنقاذ واضحة، ولا رؤية استراتيجية شاملة. السعودية، التي تملك تأثيرًا حاسمًا في السياسة اليمنية، تقف اليوم أمام منعطف أخلاقي: هل ستترك حليفها يسقط؟ وهل ستكتفي بالمراقبة بينما ملايين اليمنيين يموتون جوعًا؟
أما المجتمع الدولي، فمواقفه باتت رمادية أكثر من اللازم. الأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة، والبنك الدولي، كلها تعلم أن أزمة اليمن ليست إنسانية فقط، بل سياسية واقتصادية عميقة، لكن الحلول التي تُطرح لا تتجاوز توزيع السلال الغذائية أو دعم مؤقت لبعض المشاريع. لا توجد إرادة دولية حقيقية لإنقاذ اليمن من الانهيار.
هل من مخرج؟
أمام هذا السقوط الحر، لا بد من تحرك عاجل، وشجاع، وصادق. ما يحتاجه اليمن اليوم ليس بيانات شجب أو مؤتمرات مانحين، بل إصلاح اقتصادي جريء يبدأ من:
• إعادة هيكلة الرواتب بما يتناسب مع سعر الصرف الفعلي.
• ضبط سوق الصرف، ومحاربة غسيل الأموال بصرامة.
• تفعيل البنك المركزي كمؤسسة مستقلة وموحدة.
• رفع مستوى الشفافية في إدارة الودائع والمنح.
• إطلاق برنامج دعم للموظفين والعائلات المتضررة.
• إنهاء الانقسام المؤسسي، وتوحيد السياسة المالية والنقدية.
وقبل كل شيء، لا بد من وجود إرادة سياسية حقيقية لإنقاذ الدولة، وإعادة الاعتبار للوظيفة العامة، باعتبارها أحد أركان الاستقرار.
خاتمة: هل ندق جرس الإنذار الأخير؟
إن بقاء الوضع كما هو، دون تدخل جذري، يعني أننا نسير نحو انهيار شامل لا رجعة فيه. الرواتب ليست مسألة مالية فقط، بل هي جوهر العلاقة بين الدولة والمواطن. وعندما تفشل الدولة في توفير هذا الحد الأدنى، فإنها تفقد مشروعيتها، وتُفتح الأبواب أمام الفوضى، والتفكك، والانتفاضات الشعبية.
في اليمن، الراتب أصبح صرخة… جوع، كرامة، وعدالة غائبة. فهل من يجرؤ على سماع هذه الصرخة قبل فوات الأوان؟