تبدو الصورة الآتية من المكلا، كبرى مدن حضرموت، أكثر من مجرد احتجاجات مطلبية، أو صرخات عابرة في وجه انهيار الخدمات. ما جرى صباح الاثنين باقتحام مبنى السلطة المحلية، جاء تتويجًا لحالة احتقان شعبي متراكمة، ليس فقط في حضرموت، بل في عموم المحافظات المحررة، التي تجد نفسها اليوم في مواجهة واقع منهك، وسلطة عاجزة، وحكومة غائبة، ووعود لم تعد تُقنع أحدًا.
المكلا التي لطالما وُصفت بأنها مدينة هادئة، تجنح إلى السكينة وتحتكم إلى صوت العقل، دخلت هي الأخرى على خط الغضب الشعبي، لا لأن أهلها أقل صبرًا أو أكثر اندفاعًا، بل لأنهم – كغيرهم – باتوا يدفعون ثمن العجز الحكومي، وتراكم الفشل، وتنامي الفساد، وغياب أي بوادر حقيقية للإصلاح. لم يكن الناس يتوقعون المعجزات، كانوا فقط ينتظرون القليل: كهرباء لا تنقطع لأيام، مياه صالحة للاستخدام، أسعارًا مقبولة، وراتبًا يكفي لتلبية أساسيات الحياة.
ما جرى في حضرموت يعكس وعيًا جديدًا يتشكل لدى الناس، ويدفعهم إلى التعبير عن غضبهم، لا من أجل مكاسب سياسية، ولا استجابة لشعارات حزبية أو مناطقية، بل دفاعًا عن كرامتهم، وحقهم في العيش بحد أدنى من الكفاية. الناس اليوم لا يعنيهم شكل النظام، بقدر ما يعنيهم أن تكون هناك دولة قادرة على حماية حقوقهم وتلبية أبسط احتياجاتهم. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن هذا الغضب لم يعد بالإمكان تطويقه، ولا التعامل معه بأساليب تقليدية من التطمين أو التجاهل.
المكلا اليوم ليست وحدها. قبلها كانت عدن، وقبلها تعز، وربما غدًا مأرب أو شبوة أو المهرة. الغليان نفسه يتكرر في كل مكان، والسبب واحد: إحساس الناس بأنهم تُركوا وحدهم في مواجهة مصيرهم، وأن السلطة – بمختلف أوجهها – باتت تتعامل مع البلاد وكأنها غنيمة لا مسؤولية. في ظل غياب العدالة، وتفشي الفساد، وتوزيع المناصب كأنها مزارع خاصة، وفوق كل ذلك انهيار العملة وغياب المرتبات، من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى الشارع.
اللافت أن هذه الاحتجاجات لا تحركها جهة سياسية بعينها، ولا تنتمي إلى مشروع أيديولوجي واضح، بل تتجاوز كل تلك الاصطفافات القديمة، وتُعلن عن ميلاد وعي جمعي جديد لا يعترف سوى بلغة الكرامة والحقوق. وهذا ما يجعلها خطيرة في نظر المتحكمين بالسلطة، لكنها مشروعة في نظر كل من لا يزال يؤمن بفكرة الوطن.
الأخطر في هذه المرحلة أن الشارع لم يعد يثق بأحد. لا الحكومة قادرة على إقناعه، ولا الأحزاب تملك مشروعية الحديث باسمه، ولا حتى النخب الإعلامية والدينية قادرة على تهدئته. هناك قطيعة تامة بين السلطة والناس، والهوة تتسع يومًا بعد آخر، وإذا لم تُسد بفعل سياسي شجاع وجاد، فإن الانفجار القادم لن يكون احتجاجًا، بل سيكون تحطيمًا لكل قواعد اللعبة القديمة، وإعادة صياغة المعادلة من جديد.
هذا الغضب الشعبي لا يمكن احتواؤه بالأمن، ولا إسكات صوته بالبيانات، ولا رشوة روحه بالمسكنات. إنه غضب ناتج عن شعور عميق بالإذلال، وفقدان الأمل، والإحساس بالخذلان. كل من يتحدث اليوم عن "أعمال شغب" أو "مخربين" يتجاهل حقيقة أن الناس خرجت لأنها لم تجد ما تعيش به، ولأنها لم تعد تؤمن أن ثمة من يمثلها أو يحميها.
الكرة اليوم في ملعب السلطة، والحكومة، ومجلس القيادة الرئاسي. إما أن يتحركوا سريعًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات الدولة، وتحقيق الحد الأدنى من الكرامة للمواطن، أو يستعدوا لمرحلة جديدة تُكتب بيد الناس، لا السياسيين، وتُرسم بالدموع والعرق والصبر الذي بلغ منتهاه.
الانتفاضة قادمة، هذا توصيفا خياليا، بل توصيف لواقع يتشكل أمام الجميع، والعاقل من التقط الإشارة قبل أن تعم النار أرجاء البلاد، وتصبح حضرموت، وعدن، وتعز، مأرب وشبوة، والمهرة، كلها ميادين لصوت واحد: نريد دولة… نريد وطنًا… نريد حياة.