آخر تحديث :الإثنين-25 أغسطس 2025-11:33ص
من هنا وهناك

الألياف البصرية ترصد الأمواج الخفية التي تُسهم في ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند

الإثنين - 25 أغسطس 2025 - 10:10 ص بتوقيت عدن
الألياف البصرية ترصد الأمواج الخفية التي تُسهم في ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند
عدن الغد- متابعات

يُسهم تفكك الكتل الجليدية الهائلة عن الأنهار الجليدية في تسريع ذوبان الغطاء الجليدي الضخم الذي يغطي معظم جزيرة غرينلاند الواقعة في منطقة القطب الشمالي. وللمرة الأولى، تمكن فريق دولي من الباحثين والباحثات من قياس هذا الأثر الديناميكي المعقّد، باستخدام تقنية الألياف البصرية، وهي التقنية ذاتها المُستخدمة حاليًا لرصد الأنهار الجليدية في سويسرا.

يُسجّل الغطاء الجليدي في غرينلاند، ثاني أكبر تجمّع جليدي على سطح الأرض بعد القارة القطبية الجنوبية، تسارعًا مطّردًا في وتيرة الذوبان. فمنذ عام 2002، يفقد هذا الغطاء سنويًا ما معدله 270 مليار طن من الجليدرابط خارجي، ما تسبّب حتى الآن في ارتفاع منسوب مياه البحار، بما يقارب السنتيمترين.

ويُعدّ انفصال الكتل الجليدية الهائلة، في ظاهرة تُعرف علميًا بـ”الانهيار الجليدي البحري”، من أبرز علامات فقدان الكتلة الجليدية الناجمة عن تغيّر المناخ. غير أن هذه الظاهرة لا تُعدّ مجرّد نتيجة، بل هي في حد ذاتها، عامل يزيد من حدة الذوبان. فعندما تنهار كتلة جليدية وتسقط في البحر، تدفع بمياه دافئة من الأعماق إلى السطح؛ ما يُسرّع تآكل الجليد المجاور، ويُضاعف التأثير.

هذا ما كشفته دراسة علمية أشرف عليها فريق بحثي من جامعتي زيورخ وواشنطن، حيث تمكّن للمرة الأولى من قياس العلاقة السببية بين وتيرة تفكك الجليد، وتسارع تراجع الغطاء الجليدي القطبي في غرينلاند. وقد أُجريت الدراسة في إطار مشروع “الفيورد الأخضر” (GreenFjord)،رابط خارجي التابع للمعهد القطبي السويسري، ونُشرت في مجلة “الطبيعة” (Nature)   بتاريخ 13 أغسطس.

جوهر الموضوع:

* دينامية انهيار الكتل الجليدية وتأثيراتها الكبيرة.

* أهمية تقنية الألياف البصرية في رصد حركة الجليد والتفاعلات الحرارية تحت سطح الماء.

* ذوبان غريلاند و تداعياته على استقرار المناخ العالمي.

وفي هذا السياق، يقول أندرياس فيلي، أستاذ علم الجليد في جامعة زيورخ والمشارك في إعداد الدراسة، لموقع سويس إنفو (Swissinfo.ch): “بات لدينا الآن فهم أوضح لما يحدث عندما يسقط الجليد في البحر: فالأمر لا يقتصر على انفصاله الفيزيائي عن النهر الجليدي، بل يُنتج أيضًا تسارعًا في الذوبان أسفل سطح الماء، حيث تحدث التفاعلات الحرارية الأهم”.

وتُسهم هذه النتائج في صقل معارفنا حول سلوك الغطاء الجليدي في غرينلاند، الممتدّ على مساحة تعادل مساحة سويسرا أربعين مرّةً. ويُعدّ هذا الغطاء نظامًا بيئيًا هشًّا؛ إذ إنه من شأن ذوبانه الكامل إحداث اضطرابات جسيمة في تيارات المحيطات، وتقويض استقرار المناخ العالمي، وتهديد سواحل العالم بارتفاع منسوب المياه، وتآكل الأراضي المنخفضة.

ذوبان الأنهار الجليدية يعنينا جميعا. لماذا؟

قد تختفي الأنهار الجليدية في جبال الألب، ولن تظهر عواقب ذلك في جبال سويسرا فحسب، بل في جميع أنحاء أوروبا.

الأمواج الضخمة ترفع المياه الدافئة إلى السطح

أجرى الفريق البحثي في جامعتي زيورخ وواشنطن دراسة ميدانية حول تأثير انهيار الكتل الجليدية البحرية عند نهر “إيكالوروتسيت كانغيليت سيرمِيات” (Eqalorutsit Kangilliit Sermiat ) الجليدي، الواقع في أحد الفيوردات بجنوب غرينلاند. وتشير بيانات الفريق إلى انفصال حوالي 3،6 كيلومترات مكعبة من الجليد سنويًا عن هذا النهر، ما يعادل نحو ثلاثة أضعاف حجم نهر “الرون” (Rhône) الجليدي في جبال الألب السويسرية.

وعند سقوط هذه الكتل الجليدية في البحر، تولّد أمواج سطحية عنيفة تُشبه التسونامي، تُحرّك الطبقة العليا من عمود الماء، أي الجزء الرأسي الممتد من سطح البحر حتى قاعه، والمستخدَمم في الدراسات المحيطية لرصد درجات الحرارة، والملوحة، والتيارات. لكن لا يتوقف الأثر عند السطح؛ إذ تنشأ لاحقًا أمواج عميقة خفية لا تُرى بالعين المجرّدة، وقد يصل ارتفاعها إلى ما يعادل ناطحات السحاب، فتنقل مياهًا دافئة من أعماق المحيط إلى السطح، ما يُسرّع ذوبان الجليد عند واجهة النهر الجليدي، ويزيد من حدة التآكل في بنيته.

ويشبّه دومينيك غراف، الباحث في جامعة واشنطن والمعدّ الرئيسي للدراسة، هذا التفاعل الديناميكي بعملية ذوبان مكعبات الثلج في مشروب ساخن: “إذا لم تحرّك المشروب، تتكوّن طبقة من الماء البارد حول مكعب الثلج تعزله عن الحرارة، فتُبطئ ذوبانه. أما إذا حركت، فإن هذه الطبقة تتلاشى، ويذوب الثلج بسرعة أكبر”.

ويُشير أندرياس فيلي إلى عودة ما يقارب نصف خسارة الكتلة الجليدية في غرينلاند اليوم إلى عاملين رئيسيين يعملان بتزامن: الذوبان تحت سطح الماء، وتفكك الكتل الجليدية وانهيارها في البحر.

الألياف البصرية في قاع البحر: رصد ما خفي تحت السطح

لرصد ما يجري في الأعماق، قام فريق البحث بمدّ كابل من الألياف البصرية بطول عشرة كيلومترات على قاع البحر، مستخدمًا تقنية تُعرف باسم الاستشعار الصوتي المُوزّع (Distributed Acoustic Sensing – DAS)، وهي تكنولوجيا متقدمة تتيح تحويل الكابل نفسه إلى سلسلة من المجسّات القادرة على التقاط الاهتزازات الدقيقة. وبفضل هذه التقنية، تمكّن الفريق من رصد تغيّرات ميكروسكوبية في الكابل، سواء على شكل تمدد أو انضغاط، ناجمة عن الأمواج الناتجة عن انهيار الكتل الجليدية تحت سطح الماء.

وصرّح به دومينيك غراف، في بيان صحفي صادر عن جامعة زيورخ: “لقد أتاح لنا كابل الألياف البصرية قياس هذا التأثير المضاعف المذهل لانهيار الجليد، وهو أمر لم يكن رصده ممكنًا في السابق”.

ورغم أن الديناميكيات الناتجة عن تفاعل مياه البحر مع الكتل الجليدية كانت معروفة منذ زمن بعيد، فقد ظلّ قياسها ميدانيًا يمثل تحديًا كبيرًا، خصوصًا في بيئات الفيوردات الجليدية، حيث تُشكّل الكتل الطافية والمنفصلة، خطرًا دائمًا على التجهيزات البحثية، الموضوعة في الموقع.

ويُشير فيلي إلى عجز تقنيات الاستشعار عن بُعد التقليدية، مثل صور الأقمار الصناعية، عن اختراق ما تحت سطح الماء، وهو تحديدًا حيز حدوث التفاعلات الفيزيائية، والحرارية الأشد تأثيرًا بين الجليد والمحيط. “بفضل كابل الألياف البصرية، أصبح الأمر كما لو أنّ لدينا ألف مُستشعر نشط يعمل أسفل واجهة النهر الجليدي”، على حد قوله.

تقنية مستخدمة في الأنهار الجليدية السويسرية

يُعد استخدام الألياف البصرية في دراسة الأنهار الجليدية تقنية حديثة نسبيًا، لكنها تشهد رواجًا متزايدًا في سويسرا ومناطق جبلية أخرى مثل ألاسكا، حيث بدأ أهل الخبرة في توظيفها لرصد الاهتزازات الدقيقة داخل الجليد، التي قد تشكّل مؤشرات مبكرة على احتمال حدوث اختلالات بنيوية، أو انهيارات جليدية وشيكة.

وفي مقابلة له مع سويس إنفو، يقول توماس هدسون، عالم الزلازل في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ (ETH): “تُتيح لنا الألياف البصرية رصد أحداث زلزالية بالغة الصغر، تعجز التقنيات الأخرى عن قياسها”.

وفي عام 2023، ركّب هدسون كابل ألياف بصرية بطول 1،2 كيلومتر على نهر “غورنر” (Gorner ) الجليدي في سويسرا، وتمكّن من تسجيل آلاف الموجات الزلزالية. وتُساعد هذه الاهتزازات على كشف التغيرات البنيوية الدقيقة، الطارئة داخل الكتلة الجليدية.

وإلى جانب رصد الأنشطة الزلزالية، توفّر الألياف البصرية معلومات قيّمة حول بنية الجليد، وتركيبه الداخلي. وعلى خلاف المجسّات الزلزالية التقليدية المزروعة في نقاط محدودة، تُتيح الألياف البصرية مراقبة مناطق شاسعة نسبيًا، بفضل سهولة مدّها وتكيّفها مع التضاريس الجليدية الوعرة؛ ما يفتح الباب أمام مراقبة أنهار جليدية كاملة، حتى في المواقع النائية صعبة الوصول إليها بالوسائل التقليدية.