آخر تحديث :الجمعة-03 أكتوبر 2025-01:00م
ملفات وتحقيقات

لماذا يحن الناس الى الماضي؟

الجمعة - 03 أكتوبر 2025 - 11:57 ص بتوقيت عدن
لماذا يحن الناس الى الماضي؟

"عندما أشاهد أفلاماً لفنانين مثل فاتن حمامة أو هند رستم أو أحمد رمزي، أحن إلى ماض ٍ يبدو فيه الناس أكثر تراحماً وتعاوناً مع بعضهم البعض" - هكذا قالت لي حلا التي تبلغ من العمر 14 عاماً.


تقول حلا إنها تحب مشاهدة الأعمال السينمائية والتلفزيونية القديمة لأنها "كانت تقدم فناً هادفاً، بعكس ما نراه الآن، كما أنها تعطي صورة عن مجتمع يتحدث فيه الناس بلغة عامية جميلة راقية...أشعر بأنني أنتمي إلى تلك الحقبة أكثر مما أنتمي إلى عصرنا هذا".


حلا ليست حالة فريدة من نوعها، فالكثير من الناس عبر أنحاء العالم ومن مختلف الأجيال، بما في ذلك أبناء "الجيل زد" – هؤلاء الذين ولدوا بين عامي 1997 و2012 – يشعرون بالنوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي، سواء كان ماضياً عاشوه، أم حقبة زمنية بعيدة قرأوا عنها في كتب التاريخ أو شاهدوها على شاشات التلفاز.


فلماذا نشعر بالنوستالجيا؟ ولماذا يحن قطاع من الأجيال الشابة المولعة بالتكنولوجيا إلى فترة ما قبل العصر الرقمي؟



النوستالجيا: من مرض إلى عاطفة

تمزج كلمة "نوستالجيا" بين كلمتين يونانيتين هما "nostos" (نوستوس) التي تعني العودة إلى الوطن، و "algos" (ألغوس) التي تعني الألم. أول من استخدم المصطلح هو الطبيب السويسري يوهانيس هوفر في القرن السابع عشر الميلادي، بالتحديد في عام 1688، وأطلقه على حالة مرضية تصيب الجنود المرتزقة السويسريين الذين كانوا يحاربون في بلدان أوروبية أخرى مثل فرنسا وإسبانيا، خلال حروب أبرزها حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) والحرب الفرنسية-الإسبانية 1635-1659).



تقول المؤرخة البريطانية أغنيس أرنولد-فورتسر في كتابها "النسوتالجيا: تاريخ عاطفة خطرة" (Nostalgia: History of a Dangerous Emotion) كان هؤلاء يعانون من اشتياق شديد، ونوع من الكآبة، ورغبة جارفة في العودة إلى شيء أو مكان مألوف".


هذه النوستالجيا التي ظهرت في منطقة جبال الألب السويسرية ثم انتشرت عبر القارة الأوروبية كانت بمثابة "وباء عاطفي تزداد حدته في فصل الخريف عندما كان سقوط أوراق الأشجار يدفع هؤلاء الذين ينزعون إلى الحزن والكآبة إلى التفكير في مرور الزمن وحتمية فنائهم"، على حد قول أرنولد-فورستر.





استمر التعامل مع النوستالجيا كمرض على مدى حوالي ثلاثة قرون. ومع بداية القرن العشرين، تزايد عدد الأطباء النفسيين المهتمين بإجراء دراسات على النوستالجيا، إذ حلوا محل الأطباء المختصين في الأمراض العضوية، وبالتدريج تحولت من خلال دراساتهم من مرض إلى عاطفة، ومن شيء مرتبط بالمكان والحنين إلى الوطن، إلى شعور مرتبط بالزمن والحنين إلى الماضي.


أما في العالم العربي، فنجد في الكثير من الأشعار القديمة البعد التاريخي للنوستالجيا المتعلق بالحنين إلى الوطن، وأيضا البعد الأحدث الذي ينطوي على حنين عاطفي لفترة من الماضي. تجلى ذلك من خلال أبيات الوقوف على الأطلال التي كانت تستحضر الكثير من مشاعر الحنين إلى الوطن والمنزل الذي ارتحل عنهما الشاعر، بالإضافة إلى ذكريات الأهل والأحباب والطفولة.


وظلت النوستالجيا حاضرة في الشعر العربي على مر العصور – على سبيل المثال "سينية" الشاعر أحمد شوقي الشهيرة التي كتبها في منفاه بأوروبا وذخرت بالصور الشعرية البديعة التي عكست حنينه إلى وطنه مصر وإلى ذكريات صِباه وشبابه التي مرت مسرعة وكأنها نسيم رقيق عابر أو غفوة قصيرة أو لذة سرقها خلسة من الزمان ("عصفت كالصَبا اللعوب ومرت – سِنةً حلوةً ولذة خلس").


أوجه عديدة

مشاعر الحنين إلى الماضي من الممكن أن تأتي في صور مختلفة. على سبيل المثال، الرغبة في استعادة ماضٍ نعتبره مثالياً، أو الاستمتاع بذكريات نعلم أنها لن تعود؛ كما أن هناك النوستالجيا الشخصية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.


يقول عالم النفس والسلوك الأمريكي الدكتور كلاي راوتلِدج الذي له العديد من الدراسات والمؤلفات عن النوستالجيا لبي بي سي عربي إن الحنين إلى الماضي "يأخذ طابعاً شخصياً يتضمن ذكريات من حياتنا في معظم الأحيان. لكن الناس قد يتوقون أيضاً إلى تجارب وأفكار ومعتقدات وجماليات من عصور وحقب سابقة، وهذا ما يطلق عليه النوستالجيا التاريخية... هناك مشاعر نوستالجيا تتركز حول ذكريات شخصية لكنها أيضاً مشتركة بيننا وبين الآخرين. أحياناً يكون لتلك المشاعر مركب تاريخي – على سبيل المثال، العادات والطقوس الثقافية أو التاريخية التي تربط قصصنا الشخصية بنسيج المجتمع الأشمل".


في عالم سريع الإيقاع تكثر فيه أسباب القلق والتوتر والخوف من المستقبل، تشكل فيه مشاعر النوستالجيا مساحة لالتقاط الأنفاس وآلية للتكيف من خلال استحضار لحظات السعادة التي مرت علينا.


يقول الدكتور راوتلِدج: "وجدنا من خلال بحثنا الأكاديمي أن استرجاع ذكريات الماضي الجميلة يحسن المزاج ويعزز مشاعر الانتماء وتقدير الذات والثقة بالنفس والإحساس بمعنى الحياة والتفاؤل بما يحمله المستقبل، كما أنه يعطينا حافزاً للسعي وراء أهداف حياتية مهمة. النوستالجيا تعزز كذلك سلوكياتنا الاجتماعية الإيجابية وتشجعنا على التعاطف مع الآخرين وتقديم المزيد من العون لهم، فضلاً عن أنها تؤدي إلى زيادة سعة الأفق والإبداع".


لكن هل هناك خطر أن تتحول النوستالجيا من استراحة قصيرة من أعباء الحياة اليومية إلى هروب إلى ماضٍ نراه مثالياً – حتى وإن لم يكن كذلك – يمنعنا من العيش في الحاضر؟


لحسن الحظ، "قلة قليلة فقط هي التي تود العودة إلى الماضي"، على حد تعبير الدكتور راوتلِدج، "فالناس يدركون أن هناك العديد من الإنجازات التي حسنت حياتنا، ولا يرغبون في التخلي عن هذا التقدم. لكنهم يشعرون أن الماضي من الممكن أن يقدم دروساً مهمة للحاضر، لا سيما عندما يكونون غير راضين عن بعض مظاهر الحاضر أو تكون لديهم حالة من عدم اليقين تجاه المستقبل. النوستالجيا لا تجعلهم يريدون العودة إلى الوراء، بل تعد مصدر إلهام لاستخدام وسائل وأساليب من الماضي من الممكن أن تساعدهم على التغلب على مخاوفهم وقلقهم بشأن المستقبل".



أداة سياسية وتسويقية

بسبب هذه "النظرة الوردية" إلى الماضي، أحياناً ما تُستخدم النوستالجيا للتأثير على الاتجاهات السياسية أو الاجتماعية، من خلال استحضار صور كثيراً ما تكون مثالية أو غير واقعية لعهود ولت، ورفع شعارات تدعو إلى استعادة أمجاد الماضي لاستمالة الناخبين، على سبيل المثال.


"من البريكسيت إلى محاولات دونالد ترامب جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، تقنع النوستالجيا الناس وتوهمهم وتسحرهم لاتخاذ القرار الانتخابي المرجو"، على حد تعبير أرنولد-فورستر.


ويدرك خبراء التسويق سحر النوستالجيا وقدرتها على التأثير على المستهلكين، فتلجأ العلامات التجارية طوال الوقت إلى إعادة طرح إصدارات قديمة من منتجاتها أو استعادة أغلفة وشعارات قديمة، مستغلةَ توقنا إلى ذكريات مراحل طفولتنا وشبابنا لتوليد مشاعر قوية وارتباطات إيجابية تجعلنا نقبل على شراء تلك المنتجات. وقد وجدت دراسة منشورة في دورية أبحاث المستهلك (Journal of Consumer Research) عام 2014 أن المستهلكين أكثر ميلاً لإنفاق المال على العلامات التجارية التي تثير فيهم الحنين إلى الماضي.


نوستالجيا "الجيل زد"

"لا أعتقد أننا نستطيع الاستغناء عن التكنولوجيا وتطبيقاتها، لكني في الوقت ذاته أشعر بأننا لم نعد نتحدث مع بعضنا بعضاً لأن كل شخص ملتصق بهاتفه طوال الوقت"، هكذا وصفت حلا علاقتها بالتكنولوجيا.


هذا الشعور يشاركها فيه آخرون من أبناء جيلها.


فوفقاً لاستطلاع أجراه فريق الدكتور كلاي راوتلِدج البحثي بالاشتراك مع مؤسسة هاريس بول، 80 في المئة من بالغي جيل زد يشعرون بالقلق إزاء اعتمادهم الزائد على التكنولوجيا. الاستطلاع يشير أيضاً إلى أن 75 في المئة يشعرون بالقلق من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية، وأن 60 في المئة يتمنون لو كان باستطاعتهم العودة إلى زمن يسبق كون الجميع متصلين بالإنترنت ومتابعين للـ"ترندات" طوال الوقت – أي أنهم يشعرون بحنين إلى ماضٍ يسبق وجودهم.


كما أشار العديد من أبحاث السوق واتجاهات المستهلكين التي نشرت مؤخراً في الولايات المتحدة وأوروبا إلى أن عدداً متزايداً من أبناء الجيل ذاته بات يقبل على منتجات ما قبل العصر الرقمي، مثل اسطوانات الفينيل والكتب الورقية وألعاب الطاولة. وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة YouGov أن 65 في المئة من أبناء الجيل نفسه تستهويهم أزياء التسعينيات.


يقول الدكتور راوتلدج إن "كل جيل لديه نوع من النوستالجيا التاريخية، لكن ما يميز الجيل زد هو أنهم نشأوا في حقبة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والاستهلاك الرقمي، وأصبحوا يدركون أن الكثير من تجارب الحياة التي تشعرهم بالرضا تحدث بعيداً عن الإنترنت وتشمل أنشطة فعلية، ومن ثم ينظرون بشيء من الحنين إلى ماضٍ لم يكن الناس متصلين فيه بالإنترنت طوال الوقت كمصدر للإلهام يساعدهم على إنشاء علاقة أكثر صحية مع التكنولوجيا. إنهم لا يريدون التخلص من أجهزتهم الرقمية، لكنهم يريدون خوض تجارب حياتية حقيقية، والنوستالجيا التاريخية تساعدهم على ذلك".


مجتمعات النوستالجيا

إذا كنت عزيزي القارئ ممن نشأوا في الثمانينيات أو التسعينيات من القرن الماضي وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، فلربما صادفتك مجموعات وصفحات موضوعها الأساسي هو الحنين إلى الماضي. يتحدث أعضاء تلك المجموعات عن كل ما هو قديم، من مسلسلات وأفلام وأغان وإعلانات، إلى أجهزة وأدوات مدرسية ومنتجات غذائية تعود إلى عقود مضت. النوستالجيا في هذه المجموعات تتخطى كونها مشاعر فردية لتصبح بمثابة أنشطة جمعية.


"ذكريات زمان" واحدة من تلك المجموعات على منصة فيسبوك، ويبلغ عدد أعضائها أكثر من نصف مليون شخص. يقول سيد عبد الناصر، مؤسس المجموعة - وهو رجل أربعيني من محافظة الفيوم بمصر - إن غالبية الأعضاء مصريون، لكن هناك أيضاً أعضاء من عدد من البلدان العربية. وعن السبب الذي دفعه إلى تأسيس المجموعة، يقول عبد الناصر إنه الحنين إلى الماضي، "لأن أسلوب الحياة كان أبسط وأكثر راحةً، وكانت الأعمال الفنية ذات قيمة وتهتم بالأخلاق والقيم، بعكس الأعمال الفنية الحالية".


يخبرني عبد الناصر بأن المجموعة أصبحت بمثابة مجتمع افتراضي يتحدث أعضاؤه عن ذكريات مشتركة، ويعتبر بمثابة حلقة وصل بالأجيال المتعاقبة. يضيف أن "المجموعة تضم مراحل عمرية مختلفة، أصغرها الجيل الذي ولد في التسعينيات".


النوستالجيا التي كانت تعد مرضاً في وقت من الأوقات أصبحت الآن بمثابة قوة ثقافية وسياسية واقتصادية. الالتفات إلى الوراء ليس بالضرورة مجرد اشتياق لأشياء ولت وانقضت، بل من الممكن أن يمنحنا مساحة للتأمل والتقاط الأنفاس واستلهام أشياء من الماضي تساعدنا في رحلتنا صوب المستقبل.