آخر تحديث :السبت-04 أكتوبر 2025-03:20م
أخبار المحافظات

في قلب لحج… رجلٌ يسكنه التاريخ "رحلة حامد علي أبو بكر موسى" بين الغناء والكتب وما تخبئه الرفوف من ذاكرة وطن

السبت - 04 أكتوبر 2025 - 01:34 م بتوقيت عدن
في قلب لحج… رجلٌ يسكنه التاريخ "رحلة حامد علي أبو بكر موسى" بين الغناء والكتب وما تخبئه الرفوف من ذاكرة وطن
((عدن الغد))خاص

كتب: أمة الرحمن العفوري


في أحد الأزقة الضيقة بمحافظة لحج حيث الجدران تشيخ بصمتٍ كأنها تسرد هي الأخرى حكايات من زمنٍ مضى يعيش رجل عميق النظرة تغرق عيناه في بريق الحنين ويمضي نهاره بين أكوام الكتب والصور والأشرطة القديمة، كأنما يحرس كنزًا لا يراه غيره ، اسمه حامد علي أبو بكر موسى رجل تجاوز السبعين من عمره لكنه لم يتجاوز بعد شغفه بالتاريخ والتراث، ولم يتخلَّ عن رسالته التي نذر نفسه لها منذ أربعة عقود: ألا يُنسى ذلك الماضي الذي صاغه الأجداد بالأغاني والمسرح والحرف والمقاومة.


في ركنٍ من غرفته البسيطة بالكاد يستطيع أن يمد رجله تتكدس كتب و صناديق وصور وبقايا أشرطة كاسيت، وأوراق صفراء بأسماء كادت أن تُمحى من الذاكرة. يقول حامد وهو يزيح غبار الزمن عن إحدى الصور: "أنا الآن وحيد وسط كل هذا أخاف أن يسبقني الموت ولم أرَ ثمرة جهدي ، لكنني أقاوم وأكتب وأجمع لأن هذا ميراثنا وهذا ما سأتركه للأجيال."


■ النشأة الأولى.. حين ولدت الهواية من رحم الوجع


وُلد حامد عام 1954 في ريف لحج وعاش يتيم الأم منذ كان عمره ثلاثة عشر عاما فتربى في بيت خاله عبد الخالق مفتاح الشاعر المعروف الذي كتب أغنية "أبو العيون السود" والتي غناها كبار الفنانين أبرزهم محمد سعد ، في ذلك البيت امتص حامد الشعر كما يُمتَص الضوء من نافذة وبدأت ذاكرته تتشكل على إيقاع القصائد والندوات الأدبية التي كانت تعقدها النخبة الثقافية في لحج، وتحديدًا منذ عام 1964، حيث كانت تُقام فعاليات أدبية يرأسها الشاعر فضل محمد اللحجي.


كان خاله شاعراً لكنه لم يكن عابرًا في حياة حامد بل كان البوابة الأولى التي قادته لعالم التراث ، يقول: "بدأت كهاوٍ لكنني آمنت أن ما أفعله هو توثيق لذاكرة شعب" وبينما كان الصبية في سنّه يلعبون في الحواري كان حامد يطوف بين الندوات الثقافية يجمع القصائد ويكابد في سبيل الحصول على أشرطة الأغاني القديمة.


■ من الرياضة إلى الأرشيف... تقاطعات حياة


لم يكن حامد مجرد باحث في التراث بل كان رياضيًا أيضًا انضم إلى نادي "اتحاد الريف" في سن مبكر ومن ثم انتقل إلى نادي "الطليعة" وكان مولعًا بالغناء، وصوته يحمل طبقاتٍ من الدفء الذي يشبه دفء الأغاني اللحجية القديمة ، غير أن تحولات الحياة أخذته إلى مسارات أخرى فبعد الإعدادية التي أنهاها في لحج التحق بثانوية عبود بالشيخ عثمان وكان من أبناء الريف الذين احتضنتهم الدولة في إطار دعم التعليم وتخرج منها عام 1974.


والده كما يقول استُشهد في ثورة التحرير ضد الاستعمار البريطاني وهذا ما جعل لحج وتاريخها قضية شخصية في وجدانه لا مجرد موضوع بحث فكل صورة يحتفظ بها وكل وثيقة هي جزء من ذاكرة أبيه ودم الشهداء ورائحة الأرض.


■ سيرة مهنية على هامش الدولة... وفي صلب الذاكرة


في عام 1977 التحق حامد بوزارة الزراعة في عدن و تحديداً في مديرية خور مكسر حيث عمل في قسم الإحصاء والتخطيط وظل هناك حتى تقاعده، منذ أكثر من ثلاثة عقود لكن الوظيفة الرسمية لم تكن سوى واجهة أما قلبه فكان معلقًا بما لا تمنحه الوزارات ، التاريخ، الفن، القصيدة، والصورة.


في عام 1980 بدأ رحلته الفعلية في جمع الكتب والأشرطة والصور وكل ما يمتّ بصلة لذاكرة لحج واليمن عمومًا زار أبين وعدن، ودخل الاستوديوهات، وجمع الأغاني والقصائد، وبدأ بتوثيق حياة الشعراء والفنانين ليس بوصفه مؤلفًا بل مؤرخًا شعبيًا مهمته أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة تآكلتها الإهمال والنسيان.


■ مشروع العمر: "لحج.. تاريخ وحضارة"


أثمر جهده عن كتاب ضخم من جزئين عنوانه "لحج.. تاريخ وحضارة". صحيح أن حامد لا يعتبر نفسه مؤلفًا لكنه جمع المواد، ودققها، وأرفقها بالصور والخرائط متكئًا على مصادر رصينة ومُصرًا على أن يكون العمل مرجعًا للأجيال القادمة.


يتكون الجزء الأول من خمسة أبواب، يتناول فيها التاريخ العام للمدينة ويعرض صورًا نادرة للمساجد الأثرية، والخرائط القديمة، وتفاصيل الحياة الدينية ، أما الجزء الثاني فيتناول سيرة حكام السلاطين ونظامهم الإداري وتاريخ التعليم والبعثات التعليمية إلى الخارج في الخمسينيات والستينيات لدراسة الطب والهندسة والعلوم كما يُفرد فصلاً خاصًا للتربية التقليدية للفقهاء والكتاتيب وأيضًا للبعثات الرياضية ومنها زيارة المنتخب المصري إلى لحج في 1964.


ويستعد حامد لإطلاق عمل آخر من أربعة أجزاء يوثق فيه الفلكلور المحلي، الشعر، الغناء، المسرح، وكل ما يتصل بالوجدان اللحجي كما يحتفظ بنصوص قوانين قديمة منها قانون السلطنة العبدلية وقانون الاتحاد الفيدرالي، وقوانين من فترات الحزب الاشتراكي، وقوانين الزراعة، وكلها وثائق نادرة لا تتوفر في أي مكتبة عامة.


■ نداء إلى الجهات المعنية: "ساعدوني قبل أن أموت"


رغم هذا الجهد المضني يعيش حامد اليوم في عزلة شبه تامة في منزل صغير بالكاد يسع أحلامه يتقاضى راتبًا تقاعديًا لا يكفي لتغطية احتياجاته اليومية فضلاً عن طباعة الكتب أو حفظ الوثائق "أتمنى أن يساعدني أحد في ترتيب المنزل ليكون مرجعًا مفتوحًا للباحثين وأن يتم طباعة هذه الكتب قبل أن أرحل" يقولها بصوتٍ يختلط فيه الرجاء بالألم.


ويضيف: "اليوم أنا حي وبكرة ميت كرموني وأنا عايش بعد الموت مشتّيش لا زخرفة ولا ريش في وسط قبري تأكلني الخفافيش".


■ كلمة أخيرة


حامد علي أبو بكر موسى ليس مجرد رجل يجمع الكتب بل هو ذاكرة تمشي على قدمين رجل حمل أمانة التراث في وقتٍ تخلى فيه كثيرون عن مسؤوليتهم تجاه التاريخ والثقافة ، امتدت رحلته من الشعر إلى الغناء إلى التوثيق إلى القانون إلى المسرح ليصنع من منزله المتواضع متحفًا حيًا ينتظر من يمد له يد التقدير لا الصدقة.


إن إنقاذ أرشيف هذا الرجل لا يعني دعمه فحسب بل يعني إنقاذ جزء من هوية لحج ومن ذاكرة اليمن التي تئن تحت ركام النسيان.


وهو كما قال في ختام حديثه لا يريد تمثالًا ولا تأبينًا بل فقط: "أن يرى جهده النور قبل أن تطفأ عيناه."