آخر تحديث :الإثنين-27 أكتوبر 2025-03:06م
ملفات وتحقيقات

رئيس منتدى الإعلام والبحوث الاقتصادية في عدن: 190 مليار دولار تقريبًا غادر اليمن خلال الحرب(حوار)

الإثنين - 27 أكتوبر 2025 - 12:49 م بتوقيت عدن
رئيس منتدى الإعلام والبحوث الاقتصادية في عدن: 190 مليار دولار تقريبًا غادر اليمن خلال الحرب(حوار)
حاوره - أحمد الأغبري/ القدس العربي:

روى الناشط والمحلل الاقتصادي اليمني، رئيس منتدى الإعلام والبحوث الاقتصادية في عدن، عبدالحميد المساجدي، ما صار إليه واقع الاقتصاد اليمنيّ عقب أكثر من عقد من الحرب، وما سيكون عليه في حال استمر وضع اللاحرب واللاسلم، وإمكانات تحقيق استقرار اقتصادي من دون أفق سياسي لتحقيق السلام، وما خسره اقتصاد البلد جراء هروب الأموال ومغادرة المستثمرين، وما آل إليه اقتصاد الحرب، وواقع الأثرياء الجدد، وقبل ذلك بعدة؛ سنتوقف أمام أهم ما تضمنه بيان صندوق النقد الدولي عن اليمن في اختتام مشاورات المادة الرابعة التي شهدتها، مؤخرًا، العاصمة الأردنية عمّان.. وفي ما يأتي نص الحوار.

ثمة انغلاق لأفق الحل السياسي، ولا يوجد بصيص أمل لتحقيق استقرار اقتصادي بموازاة أوضاع معيشية مؤسفة جدًا وأزمة إنسانية غير مسبوقة، ماذا يعني استمرار هذا الواقع من الانقسام والصراع الاقتصادي والتخندق السياسي وغياب الشفافية واستمرار الفساد وهروب الأموال، وغيرها من العوامل؟ وماذا يعني استمراره لعشر سنوات مقبلة فرضًا؟

سؤالك جوهري ومهم، إذ أن استمرار انغلاق أفق الحل السياسي مع الانقسام والتخندق السياسي، وغياب الشفافية، واستمرار الفساد، وهروب الأموال يعني بالعمق تحويل الأزمة من صدمة مؤقتة إلى تراكمية، حيث تآكل رأس المال البشري والطبيعي والمؤسسي، وهروب الاستثمارات، وتزايد الاعتماد على التمويل الخارجي والجهود الإنسانية.

اقتصادياً هذا يُترجم إلى انخفاض الدخل الوطني الحقيقي، اتساع الاقتصاد غير الرسمي (اقتصاد الحرب)، وظهور أثرياء جدد لهم مصلحة من استمرار الحرب، بالإضافة إلى زيادة تكلفة المعاملات والفساد كـ«ضريبة» على كل نشاط اقتصادي.

سياسياً، هذا الوضع يعني صعوبة الوصول إلى حلول توافقية؛ لأن كل طرف يحاول الاقتناص أو الانتهاز بدلاً من البناء المشترك.

إذا استمر هذا الواقع لعشر سنوات مقبلة، فإن السيناريو المرجّح يتضمن انكماشاً طويل الأمد في الناتج المحلي، تفكك قدرات الدولة الإدارية، وارتفاع دائمٍ لمعدلات الفقر والبطالة وهشاشة الخدمات الأساسية. بمعنى أن ما نراه اليوم سيتحول إلى واقع هيكلي يصعب قلبه بدون جهد دولي هائل وضمانات سياسية قوية.

الاحتياطيات والحوكمة


○ كان الاقتصاد اليمني يُعاني من إشكالات عديدة قبل الحرب؛ ومن أبرز اشكالاته أنه لا يمتلك بُنية تحتية صلبة ورساميل ضامنة، وحوكمة وشفافية، ومؤسسية تؤهله لتجاوز الصدمات. إلى أي مدى كان لهذا الواقع دورًا في مضاعفة إشكالاته جراء الحرب؟

• فيما يتعلق بالضعف البنيوي للاقتصاد قبل الحرب، من حيث نقص رأس المال، وهشاشة المؤسسات، وغياب واضح للحوكمة أو سجلات شفافة للمالية العامة؛ فهو لم يكن مجرد ظرف سابق، بل كان عاملُ مضاعفة حقيقي: أي صدمة في الدول ذات قواعد مؤسسية قوية يكون امتصاصها أسرع وتُقلّص من تكاليفها؛ أما اقتصاد مثل اليمن فارتدت عليه الحرب بتدمير خطوط الإنتاج، وتقاسم الايرادات بين مختلف أطراف السيطرة، وتعطيل آليات تحصيل الإيرادات والإنفاق العام. بعبارة أخرى، الحرب فتحت «شقوقاً» كبيرة على ضعف سابق جعل القدرة على التعافي أضعف بكثير مما لو كان الاقتصاد مبنياً على مؤسسات واحتياطيات وحوكمة.

○ كم خسر الاقتصاد اليمني خلال عقد من الحرب من الأموال كخسائر يمكن قراءتها كأرقام تبقى في معظمها تقديرية؟

• تقدير الخسائر النقدية لعقدٍ من الحرب يظل تقريبيًا ومرتبطًا بفرضيات (قيمة خسائر البنية التحتية المتضررة كليًا أو جزئيًا، وخسارة توقف أو تباطؤ الإنتاج، وهروب رؤوس الأموال، وانخفاض الناتج). التقديرات العالمية للمؤسسات والتنظيمات غير الحكومية تشير إلى أرقام مرتفعة – إضافة إلى تقديرات محلية رسمية- لكنها غير دقيقة لصعوبة إجراء إحصاء ورصد دقيق للخسائر وتكلفتها في ظل الحرب، لكن هناك تقارير للأمم المتحدة تؤكد أن التنمية في اليمن عادت للوراء بسبب الحرب 48 سنة، وفي تصريحات، لا أعرف مدى دقتها، لمسؤولين حكوميين، أن الخسائر قد تصل إلى 200 مليار دولار كخسائر مباشرة وغير مباشرة على مدى العقد؛ حيث تضررت الموانئ والمطارات، وفقد اليمن أربع طائرات، ودُمرت رافعات المناولة ومنشآت التخزين، ومصانع الأسمنت، ومحطات توليد الكهرباء، لكن في تقديري لا توجد سلسلة أرقام نهائية متفق عليها دولياً، لكن من المؤكد أن الخسائر تراكمت لتقود إلى تآكل كبير في الناتج والقدرة التشغيلية.


استقرار هش


○ هل يمكن الحديث عن تعاف اقتصادي حقيقي بدون إحلال السلام في اليمن، أو حتى قبل التوصل إلى مرحلة السلام، في حال توفر استقرار سياسي نسبي، وهل يمكن الحديث عن استقرار سياسي في مرحلة اللاحرب واللاسلم؟

• لا اقتصاد بدون سلام، ولا يمكن الحديث عن تعافٍ حقيقي ومستدام بدون إحلال سلام شامل؛ مع ذلك، من الناحية العملية يمكن لمرحلة استقرار سياسي نسبي، كالتي شهدتها البلاد بعد هدنة 2022، أن تتيح تعافيًا محدودًا ومؤقتًا في قطاعات معينة: إعادة تشغيل موانئ، استئناف خطوط ائتمان واردات الغذاء، واستقرار سعر الصرف المؤقت. ولكن كانت هذه فرصة تعمد تجار وأمراء الحرب إضاعتها؛ متسببين بضياع فرصة ذهبية كانت يمكن أن تؤدي إلى إحلال السلام، والوصول إلى حلول توافقية.

غير أن أي تعافٍ يمكن أن يحدث في ظل استقرار نسبي قد يكون استقرارا هشا؛ لأنه مبنيا على افتراضات هشة (استمرارية التمويل الخارجي، عدم تجدد الصراع، إجراءات ثقة متبادلة). لذا؛ السلام الكامل شرط لتعافٍ شامل؛ أما الاستقرار الجزئي فقد يخلق نوافذ اقتصادية، لكنه لا يُعيد مؤسسات الدولة، أو يحلّ قضايا الديون والاحتياطيات على المدى الطويل.

وفي كل الأحوال بقاء اليمن في حالة اللاحرب واللاسلم يعني اقتصادًا يعيش على طاقة مؤقتة، كبرامج إنسانية وإغاثية تحافظ على الحد الأدنى من الحياة المعيشية، بدون قدرات اقتصادية حقيقية فعّالة.


الاقتصاد الكلي


○ ما هي مؤشرات الضعف الكبير الذي نال الاقتصاد الكلي اليمنيّ، خلال الحرب، والذي أشار إليه بيان صندوق النقد الدولي الأخير بدون تفاصيل؟

• مؤشرات الضعف الكلي التي نالت الاقتصاد اليمني، والتي أشار إليها صندوق النقد الدولي في بيانه عن مشاورات المادة الرابعة، تشمل: تضخما مرتفعا وفقدان القوة الشرائية، احتياطيات متدنية للبنك المركزي تغطي واردات بضعة أسابيع أو أقل، وتآكل الإيرادات الحكومية، تراكم الديون والمستحقات المتأخرة، وانقسام النظام المصرفي، وأسواقا موازية للعملة، وانخفاضا حادا في نصيب الفرد من الناتج. هذه مؤشرات تتكرر في تقارير البنك وصندوق النقد الدوليين وملفات المتابعة، وهي تعكس جانبًا من الكارثة التي يعيشها الشعب اليمني كل لحظة طيلة عشر سنوات من الحرب.

○ في حال تجمد الوضع الراهن على ما هو عليه؛ هل يمكن البناء عليه لتحقيق أي مستوى من مستويات النمو الاقتصادي أو تحقيق شكل ما من أشكال الاستقرار الاقتصادي؟

• إن تجمّد الوضع الراهن بصيغته الحالية يجعل من الصعوبة بمكان البناء على الحالة لتحقيق نمو مستدام. قد يظهر نمو صغير في قطاعات محدودة، لكن نموًا اقتصاديًا حقيقيًا وموزعًا يحتاج إلى إعادة توحيد السياسات النقدية والمالية، استقرار سعر الصرف، واستعادة ثقة القطاع الخاص والمموّلين الخارجيين؛ وهذه أمور لا تتوفر في الإطار الراهن. لذا يمكن تحقيق استقرار نسبي محدود، لا نمو قوي أو استعادة قدرات الدولة، ناهيك أن تجميد الوضع الراهن يعني تقوية الأطراف خارج إطار الدولة، مقابل تآكل الدولة، ويعني مزيدًا من إفقار الشعب، مقابل تضخم أرصدة قلة قليلة من تجار وأمراء الحرب.


الرهانات


○ علام تُراهن السلطات القائمة وإمكانات تحقيق النمو أو الاستقرار منعدمة أو صعبة التحقق أو محدودة مقارنة بما خسره البلد؟

• السلطات القائمة بمختلف مناطق السيطرة تُراهن غالبًا على مزيج من: موارد خارجية محدودة ومؤقتة كدعم دولي إقليمي، إدارة جزئية للأسواق كتحكم في النقد أو قيود على الصرف، والاستفادة من أنشطة الخِدمات التي لا تحتاج إلى استثمارات رؤوس أموال كبيرة. هذه الرهانات محدودة الفاعلية مقارنة بخسائر البلد؛ لأنها لا تُعالج الانقسام المؤسسي، ولا تبني قواعد لضمان استعادة ثقة المستثمرين أو إصلاحات هيكلية. بمعنى آخر؛ رهانات على التحكم الجزئي بدلًا من إصلاح شامل، وفي كل الأحوال القدرة على إدارة اللحظة بظروفها، تعني إضافة مزيد من التحديات الاقتصادية على المدى الطويل؛ ما يجعل من أي تحديات مقبلة، حتى ولو كانت صغيرة يصعب حلها أو التعامل معها، وقد تكون نتائجها أكثر وأكبر فتكًا على الاقتصاد وعلى المواطن.

○ وما هي أبرز الإشكالات التي يمكن التوقف عندها، ويمكن القول إنها شكّلت ضربة كبيرة للاقتصاد اليمني خلال الحرب؛ ولنتوقف مثلًا عند استمرار هروب الأموال والعملات الصعبة ورحيل المستثمرين لخارج البلد؟ كم حجم الأموال التي غادرت اليمن، وهل كان يمكن تفادي هذه الخسائر؟

• خروج الأموال والعملات الصعبة ورحيل المستثمرين شكّل ضربة قاسية على الاقتصاد اليمني، حيث يؤدي ذلك إلى نقص في السيولة بالعملة الصعبة، وزيادة الضغوط على سعر الصرف، وتراجع قدرة المستوردين على تمويل وارداتهم.

غير أنه في نفس الوقت فيما يتعلق بتحديد حجم الأموال المغادرة بدقة صعب لعدم وجود إحصاء شفاف، رغم أن هناك تقديرات تتحدث عن أكثر من 190 مليار دولار. أموال تجار لم تُعد السوق المحلية بيئة آمنة لهم ولاستثماراتهم، بالإضافة إلى أموال شخصية لشخصيات تجد خطورة على حياتها وأموالها من قبل أطراف الصراع، بالإضافة إلى أمراء وتجار الحروب، والذين يعلمون أن هذا الوضع مؤقت واستثنائي، وبالتالي يبحثون عن ملاذات آمنة للأموال، التي تحصلوا عليها غالبًا بشكل غير شرعي.


الضبط المالي


○ أشار صندوق النقد الدولي، في بيان اختتام مشاورات المادة الرابعة إلى تحسن طفيف بفضل دعم خارجي وسياسات ضبط مالية…ماذا يقصد بسياسة الضبط المالية، هل هي الإجراءات الحكومية الأخيرة؟

• عندما يشير صندوق النقد إلى «سياسة ضبط مالية»؛ فيقصد عادة إجراءات تهدف إلى تقليل العجوزات المالية الحكومية عبر رفع الإيرادات كتحسين تحصيل الضرائب والجمارك، وخفض النفقات غير الفعالة أو الممولَة بالاقتراض. قد تتضمن تقليص دعامات مستهدفة أو إعادة هيكلة. ما ورد في بيان الصندوق عن تحسّن طفيف أعتقد أنه يُشير إلى التحسن الذي حصل في سعر صرف الريال اليمنيّ منذ نهاية تموز/يوليو 2025، غير أن هذا التحسن يواجه مخاطر انتكاسة جديدة، بسبب عدم الموائمة بين السياستين النقدية والمالية، ورفض أطراف الصراع توريد الإيرادات العامة إلى الحسابات الخاصة بها في البنك المركزي، والذي جعل الحكومة عاجزة عن دفع مرتبات الموظفين لعدة شهور.

○ وهذه الإجراءات، أقصد الأخيرة، هل كانت إجراءات وضعتها الحكومة أم هي إجراءات وخطة خاصة بالبنك المركزي؟

• في الحالة اليمنيّة الأخيرة، الإجراءات التي رُصدت هي مزيج: بعضها صادرة عن الحكومة (قرارات مالية وإصلاحات إدارية)، وبعضها كان بمبادرات أو إجراءات للبنك المركزي كسياسات سعر الصرف، إدارة احتياطيات، قيود مؤقتة. في الواقع العملي غالب الإجراءات تكون مشتركة أو متزامنة لإحداث أثر ملموس.

غير أن محاولة أي طرف تجيير التحسن والإصلاحات لصالحه أعتقد أنه يؤثر على الثقة بين أطراف الدولة، ويشتت الجهود، ويفقد ثقة المجتمع بالدولة ومسؤوليها. وفي تقديري أن التحسن الأخير كانت له خلفيات سياسية وجزء منه يتجاوز الواقع المحلي.

○ وهل كان من الممكن حصد نتائجها بدون التهديد بعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية مثلا؟

• مثلما ذكرت في إجابة سؤالك السابق؛ التحسن كان جزءًا منه مرتبطا بترتيبات إقليمية، حيث أنه من الصعب الفصل بين أثر الإجراءات و«التهديدات الخارجية»؛ لكن يمكن للتهديدات كخيار عقوبات أن تُسرّع من التزام السوق ببعض السياسات؛ لأنها تزيد من تكلفة عدم الالتزام. بالمقابل، التهديد بالعقوبات قد يُفاقم الهروب من النظام المصرفي أو يقوّض التعاون الدولي إذا لم يكن متسقًا. بالتالي النتائج كانت نتيجة تداخل عوامل: إجراءات محلية وضغوط وضمانات خارجية.


النظام المصرفي


○ ماذا يعني هذا في واقع الحال ما دام السوق المصرفي المحلي يبدي خوفًا من الخارج أكثر من الداخل؟

• هذا بدرجة أولى يعني ضعف تأثير البنك المركزي على النظام المصرفي؛ فالنظام المصرفي لم يعد يخاف من البنك المركزي أو الجهات الرقابية في الداخل، لأنها إما منقسمة أو ضعيفة أو يمكن التفاهم معها، بينما التعامل مع الخارج كالأمم المتحدة، الخزانة الأمريكية، «أف أيه تي أف» أو «أف أيه سي» غير قابل للتلاعب أو التفاهم الشخصي.

كما أن البنوك وتحت ضغوط أطراف الصراع بعضها تورط في عمليات مصرفية مشبوهة، وأصبح مكشوفًا أمام النظام المالي العالمي، وبالتالي فإن الضغوط الخارجية أسهمت في رفع الحرج عن البنوك، في عدم الالتزام بالضغوط المحلية من أطراف الصراع، وعدم الانخراط في العمليات المشبوهة وتمويل الجماعات المسلحة وغسل الأموال.

والضغوط الخارجية قد تكون منطقية؛ لأن البنوك والشركات باتت تضبط سلوكها وفقًا لمعايير البنوك المراسلة الدولية أكثر من انصياعها لتوجيهات السلطات المحلية، رغم أن هذا يعكس فقدان السيادة النقدية والرقابية في الواقع، حيث أصبح الخارج هو مَن يحدد ما هو مسموح وممنوع.

○ وإلى أي مستوى أو حد معين يمكن أن تحقق هذه المعالجات نتائج ملموسة؟ وهل ما تحقق حاليًا هو أقصى ما يمكن أن تحققه؟

• هذه المعالجات المتمثلة في القرارات الادارية أو الضغوط الخارجية يمكن أن تحقق نتائج ملموسة محدودة: تخفيف ضغوط استثنائية مؤقتًا، وقف تدهور سريع في سعر الصرف، وإحداث تحسّن محدود في القدرة على تمويل الواردات الأساسية. لكنها ليست «أقصى ما يمكن»، إذا لم تترجم إلى إصلاحات هيكلية أوسع، وأقصى ما يمكن تحقيقه دون إصلاحات هو وقف الانهيار وليس إعادة بناء اقتصادي.

وفيما يتعلق بقيمة العملة بعد التحسن الأخير لابد من الإشارة إلى أن المستوى المتدهور الذي وصلت إليه عند حدود 2900 ريال للدولار كانت نتيجة المضاربة الشديدة، ولم تكن انعكاسًا لقيمة العملة، وبعد الإجراءات الإدارية والضغوط الخارجية فقدت السوق عامل المضاربة، وعادت قيمة الريال إلى مستوياتها الواقعية الحقيقية، غير أنه كان بالإمكان البناء على هذا التحسن في سعر صرف العملة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية تنعكس على المالية العامة للدولة، وعدم الاعتماد على الدعم الخارجي بشكل رئيسي.


إصلاحات هيكلية


○ يرى صندوق النقد الدولي أن هناك فرص تعافٍ تدريجي إذا تحقق الاستقرار السياسي واستمر الدعم الدولي وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية… ما هي أهم الإصلاحات الهيكلية التي يصرّ عليها الصندوق، وأكد عليها في بيانه الأخير، وما مدى صوابيتها؟

• أهم الإصلاحات الهيكلية التي يصرّ عليها صندوق النقد عادةً، والتي أشار إليها في خطوط عامة في بياناته الأخيرة تشمل: توحيد السياسات النقدية والمالية، تحسين تحصيل الإيرادات وإدارة النفقات، وتصحيح الازدواج والاختلال في كشوفات الراتب، وتحرير الدولار الجمركي، ورفع الدعم عن الوقود في بعض المناطق اليمنية، وإصلاح نظام المناقصات والمزايدات، وإصلاح منظومة تحصيل الموارد من المنافذ البرية والبحرية والجوية وتحسين الحوكمة والشفافية في الإنفاق العام، وإعادة هيكلة الديون والمستحقات.

فيما يتعلق بمدى صوابيتها أعتقد أن تحرير الدولار الجمركي في ظل تقاسم أطراف الصراع للإيرادات، ورفض المؤسسات الحكومية توريد الموارد إلى الحسابات الخاصة بها في البنك المركزي، في ظل وضع كهذا يمكن أن يسهم تحرير الدولار الجمركي في زيادة وتضخم أرصدة الأطراف خارج إطار الدولة والحكومة، في مقابل مخاطر تهدد المواطنين؛ لأن هذا التحرير سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع، وبالتالي يلغي أي فوائد ومكاسب، نتيجة تحسن قيمة العملة الوطنية.

○ بالمناسبة؛ تحدث الصندوق عن ضبط إيرادات المحافظات ومعالجات أخرى متعلقة بتعرفة استهلاك الكهرباء وغيرها… هل هذه المعالجات وغيرها ممكن تحقيقها في المرحلة الراهنة؟

• تطبيق معالجات مثل ضبط إيرادات المحافظات، أو تعرفة الكهرباء ممكن تقنياً، لكن صعب سياسيًا في الوضع الحالي، لأن الأطراف المنضوية تحت إطار الحكومة الشرعية غير مقتنعة بمستوى الشراكة، ناهيك عن وجود أهداف مختلفة لكل طرف، والبعض لديه معارك مؤجلة ومشاريع وأجندة مختلفة، ولا يوجد اتفاق حول واحدية المصير، خاصة في الشق الاقتصادي، كل هذه العوامل تجعل هذه الأطراف تستأثر بالموارد الواقعة تحت سيطرتها، وبناء أمبراطوريات مالية واقتصادية، استعدادا لمرحلة مؤجلة، وفي كل الأحوال؛ هذا الوضع هو نتيجة غياب مؤسسات الدولة الرقابية، وغياب دور بقية مؤسسات المجتمع المعنية بالرقابة ومكافحة الفساد وضعف أو تخاذل الدور الدولي في هذا الجانب.


الاحتياطيات الخارجية


○ وما الأسباب وراء انخفاض الاحتياطيات الدولية انخفاضًا كبيرًا إلى أقل من شهر واحد من الواردات – على الرغم من الدعم المالي السعودي للحكومة؛ وفق بيان الصندوق؟

• انخفاض الاحتياطيات الخارجية للبنك المركزي لمدى أقل من شهر واردات يعود إلى تآزر عوامل عدة أهمها: محدودية موارد البلد من النقد الأجنبي بعد توقف تصدير النفط، وتقلص المنح والمعونات الخارجية، وسوء إدارة مثل هذه الموارد في فترات سابقة، وتراجع حجم التحويلات الخارجية، واعتماد البلاد على الواردات، وضعف قاعدة الإنتاج المحلي، وانقسام القطاع المصرفي؛ كلها عوامل أدت إلى تآكل الاحتياطيات الخارجية للبنك المركزي.

○ كما تحدث الصندوق عن تراكم المستحقات المتأخرة للدائنين الخارجين… كم بلغت هذه المستحقات، وكم صار الدين الخارجي اليمنيّ حاليًا مع المستحقات المتأخرة، وكذلك الدين الداخلي؟

• تراكم المستحقات المتأخرة للدائنين الخارجيين يزيد عبء التمويل، ويصعّب إعادة الوصول لأسواق تمويلية منتظمة؛ وتقدير حجمها، رغم أن الحكومة والبنك المركزي لا يمتلكان بيانات عن الدين الخارجي، لكن أعتقد، وفق آخر بيانات رسمية، أنه في حدود سبعة مليارات دولار إن لم يتم إعفاء اليمن خلال سنوات الحرب من قبل أي من الدائنين، وفيما يتعلق بالدين العام الداخلي فأعتقد أنه وصل إلى 11 تريليون ريال، مع الأخذ في الاعتبار أنه منذ العام 2014 أصبحت هناك بيانات خاصة بالحكومة الشرعية وبيانات خاصة بجماعة الحوثي.

○ قلت إن الحكومة والبنك المركزي لا يمتلكان بيانات عن الدين الخارجي؛ هل يعقل هذا، ومن يمتلك هذه البيانات؟

• هذا مثبت في أحد التقارير السنوية للبنك المركزي؛ وهو أنه لا توجد لديهم بيانات دقيقة، كما أن البنك لديه عجز في الكوادر والإمكانيات.

○ ارتفع التضخم إلى أكثر من 35 في المئة على أساس سنوي مقارنة بحلول تموز/يوليو 2025. كيف نقرأ واقع هذا الحال، وكيف يمكن تجاوزه مع بقاء الحال كما هو عليه؟

• ارتفاع التضخم إلى مستويات فوق 35 في المئة حتى تموز/يوليو 2025 يقرأ كنتاج لتدهور سعر الصرف، وزيادة تكاليف الاستيراد، واضطراب سلاسل الإمداد. تجاوزه يتطلب إدارة نقدية فعالة لاحتواء التضخم النقدي، وسياسات سعر صرف موثوقة، وانضباط مالي لتقليل العجز التمويني الذي يغذي الضغوط التضخمية. مع بقاء الحال كما هو، التضخم سيستمر في تآكل الدخل الحقيقي ويزيد الضغوط على الأسر.

○ ما لفت انتباهك كمحلل اقتصادي في بيان صندوق النقد الدولي في ختام مشاورات المادة الرابعة؟

• يمكن قراءة بيان صندوق النقد من عدة زوايا، سواء فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، والتوصيات التي تضمنها للحكومة، لكن ما يمكن التركيز عليه يتمثل في أن أي تحسن مرهون بإرادة سياسية لإدارة وتحصيل الموارد، وهو ما أشار إليه بالضبط المالي، لأن استمرار التهاون في هذا الأمر، يعني فشلا كاملا للحكومة والبنك المركزي ومجلس القيادة الرئاسي ومزيدا من المعاناة للمواطنين.


الحرب الاقتصادية


○ على صعيد الحرب الاقتصادية؛ ماذا سينتج عنها من نتائج مستدامة تبقى حتى عقب تحقيق السلام؟

• الحرب الاقتصادية تترك آثارًا طويلة، حتى بعد توقف القتال، وتحقيق السلام. فهي لا تدمر فقط المصانع والموانئ وشبكات الكهرباء، بل تغيّر شكل الاقتصاد نفسه.

بعد الحرب، قد تختفي فرص العمل، وتضعف مهارات الناس، ويزداد اعتمادهم على أنشطة غير رسمية، مثل الصرافة والتحويلات خارج النظام البنكي. كما تتراكم الديون وتتعطل قدرة الحكومة على الاستثمار في الخدمات والمشاريع. لذلك، إعادة الإعمار لا تعني فقط بناء ما تهدم، بل تحتاج إلى وقت وجهد لإصلاح المؤسسات، وتنظيم الاقتصاد من جديد، وتهيئة بيئة تشجع على العمل والإنتاج والاستثمار.