تُعَدُّ مهنة المحاماة من أسمى المهن القانونية والإنسانية، فهي تجسّد مبدأ العدالة، وتشكل خط الدفاع الأول عن الحقوق والحريات، وعلى الرغم من القيمة الأخلاقية والمكانة الاجتماعية التي تحملها هذه المهنة، إلَّا أنَّ واقع المحامين في اليمن اليوم يعكس تحديات معقّدة تتقاطع فيها رسالة الدفاع النبيلة مع ضغوط اقتصادية ومهنية وإجرائية تجعل ممارسة المهنة أشبه بصراع يومي للبقاء.
المحامي.. ضمير العدالة الحي
تجمع العديد من الآراء القانونية على أنَّ المحامي يشكّل ركنًا أساسيًا في بناء العدالة، فهو ليس مجرد عنصر مساعد بل شريك فاعل في ضمان حماية الحقوق وصون الحريات.
وتزداد أهمية دوره في الظروف الاستثنائية التي تمرُّ بها البلاد، حيث تتطلب طبيعة القضايا وتعقيداتها حضورًا مهنيًا قويًا ومتمرسًا في ظل واقع عدلي يعاني من عراقيل متعددة.
وفي هذا السياق تبرز تساؤلات حول قدرة المحامي اليوم على أداء رسالته كاملة وسط الضغوط التي تحيط به من مختلف الجهات.
ويؤكّد المحامي محيي الدين محمد، عضو نقابة المحامين بعدن، أنَّ المحامي ليس مجرد مترافع عن موكله، بل هو لسان العدالة وصوت من لا صوت له، غير أن الظروف العدلية الراهنة تجعل أداء هذه الرسالة محفوفًا بالعقبات.
ويشير المحامي محيي الدين محمد إلى أنَّ المحاماة تمثل الركن المكمل للقضاء، فكما يحتاج الميزان إلى العدل يحتاج العدل إلى من يحميه، إلَّا أنَّ ضعف البنية العدلية وتراجع احترام الدور المهني للمحامي داخل بعض المؤسسات، أسهما في تعقيد مهمة الدفاع وإضعاف أثرها.
تحديات ميدانية وإجرائية
يواجه المحامون صعوبات يومية تتعلق بالحصول على الوثائق والمعلومات من الجهات الحكومية فضلًا عن طول أمد التقاضي، نتيجة ازدحام الجلسات وارتفاع عدد القضايا، الأمر الذي ينعكس على سرعة الفصل، وعلى قدرة المحامي في أداء مهامه بكفاءة.
وتوضح المحامية شذى علي أنَّ بعض المحامين يتعرضون لمضايقات في أثناء قيامهم بواجبهم، مشيرةً إلى أنَّ الحماية القانونية للمحامي لا تزال غير كافية، وأنَّ مَنْ يقف للدفاع عن حقوق الآخرين يجد نفسه في أحيان كثيرة بلا حماية حين يتعرض للعرقلة أو الانتهاك في أثناء أداء عمله.
وتضيف أن الإضرابات المتكرّرة وتعطل سير العمل في المحاكم يفاقمان المشكلة، مطالبةً القضاة بتقريب مواعيد الجلسات، وعدم إطالة الفترات بين الجلسات، بوصف القضاء وُجد لرفع الظلم لا لزيادة معاناة المتقاضين.
وترى المحامية شذى علي أنَّ هذه الإشكالات لا تؤثر في المحامين وحدهم، بل تنعكس مباشرة على حقوق المتقاضين، وعلى تحقيق العدالة.
الأعباء الاقتصادية.. تأثير مباشر على الاستقرار المهني
لم يكن قطاع المحاماة بمنأى عن التدهور الاقتصادي، إذ أدَّى ضعف القدرة المادية لدى المواطنين إلى تراجع اللجوء إلى المحامين وتحمّل أتعابهم، الأمر الذي وضع كثيرًا من المحامين أمام خيارات صعبة.
وتوضح المحامية إحسان معتوق أنَّ الاعتماد على دخل المهنة وحده أصبح غير مجدٍ في ظل ندرة القضايا المأجورة أو انخفاض قيمتها، وهو ما دفع عددًا من المحامين لترك المهنة بحثًا عن مصادر رزق أخرى، بينما اضطر آخرون للعمل في وظائف إضافية لتأمين الحد الأدنى من المعيشة.
وتشير إلى أنَّ هذا الواقع أدَّى إلى تراجع عدد المحامين المتفرغين للمهنة، وتراجع مستوى جودة الخدمات القانونية في وقت تزداد فيه الحاجة إليها أكثر من أيّ وقت مضى.
القضاء والمحاماة.. تكامل لا خصومة
في ظل التحديات التي يواجهها المحامون يبرز الدور المحوري للقضاء في تعزيز العلاقة المهنية وتوجيهها نحو التعاون البنّاء، فالتكامل بين هاتين المهنتين لا يُعَدُّ رفاهية بل ضرورة لضمان سير العدالة بكفاءة.
كما إنَّ رؤية القضاء لطبيعة العلاقة مع المحامين تمثل عاملًا مهمًا في فهم الصورة الكاملة لمنظومة العدالة خاصة في ظل الظروف التي تحتاج فيها المحاكم إلى أداء مستقر ومتعاون من مختلف الأطراف القانونية.
ويرى القاضي أسيل سعد أنَّ العلاقة بين القضاء والمحاماة يجب أن تكون علاقة تكاملية باعتبار أن الطرفين يشكلان معًا ركنًا أساسيًا في منظومة العدالة.
ويشير إلى أنَّ أداء بعض المحامين قد يشهد تفاوتًا إلَّا أنَّ ذلك لا يتعدَّى كونه حالات فردية، يمكن معالجتها من خلال التدريب المستمر، وتعزيز المسؤولية المهنية.
ويؤكَّد القاضي أسيل سعد أنَّ المحامي شريك أساسي للقاضي، وأن العلاقة بين الجانبين تقوم على الاحترام المتبادل بما يعزز الثقة العامة بالعدالة.. مضيفًا أن تطوير منظومة العدالة يتطلب تحديث اللوائح وتفعيل قنوات التواصل المهني بين القضاء والمحامين؛ لأنَّ تكاملهم يشكل ضمانة لعدالة أكثر نزاهة وكفاءة.
تراجع التدريب والتأهيل.. أزمة تهدد مستقبل المهنة
يشير المختصُّون إلى أنَّ ضعف التدريب والتأهيل يشكل إحدى أخطر الإشكالات التي تواجه مهنة المحاماة في اليمن.
ويوضح الباحث القانوني وجدان عوض الأصبحي أنَّ المهنة تعاني من تراجع واضح في جودة التدريب، حيث تطول مدة التدريب دون وجود معايير موحدة لتنظيمه وتتفاوت جودة المكاتب التدريبية وتضعف آليات التوثيق، فضلًا عن غياب الرقمنة وتراجع الحماية المهنية للمحامين.
ويؤكّد الأصبحي أهمية تعزيز نظام العون القضائي حيث ضعفه يحرم كثيرًا من غير القادرين من الوصول إلى حقوقهم القانونية، كما يقلّل من فرص العمل المنظم للمحامين.. لافتًا إلى ضرورة تعزيز التدريب المؤسسي، وتحسين بيئة العمل، ورقمنة الإجراءات القضائية؛ لضمان تحقيق عدالة أكثر كفاءة.
إصلاحات ضرورية لإنقاذ المهنة
يطالب المحامون والقانونيون بجملة إصلاحات تشمل إصدار تشريعات تكفل حماية المحامي في أثناء مزاولة عمله، وإنشاء صندوق للمساعدة القانونية، وتعزيز برامج العون القضائي، وتحديث أنظمة النقابات وتعزيز استقلاليتها، وتفعيل برامج التدريب والتأهيل المستمر، فضلًا عن ضرورة إشراك النقابات في صياغة السياسات والتشريعات العدلية.
ويؤكَّد المهتمون بالشأن القانوني أن تعزيز دور المحامي وضمان استقلاليته، يمثلان خطوة أساسية في إصلاح منظومة العدالة برمتها.
بين الواجب والواقع.. المحامي حارس العدالة
رغم كل التحديات يظل المحامون متمسكين برسالتهم مؤمنين بأنَّ الدفاع عن الحقّ ليس مجرد مهنة بل التزام أخلاقي وإنساني.
فالمحامي، وهو يقف داخل قاعة المحكمة، لا يدافع عن فرد فحسب، بل عن مبدأ وقيمة وضمير حي يشكل جوهر العدالة.
وتبقى العدالة في النهاية بحاجة ماسة إلى من يذودون عنها، ويحمون مبادئها، مهما كانت الظروف.