أكد الأكاديمي والمحلل السياسي د. تركي القبلان أن بناء الدولة في اليمن تاريخيًا لم يقم على مركز جغرافي واحد، بل تشكّل عبر توازن دقيق بين الجبل والبحر، بوصفهما عنصرين حاسمين في معادلة السلطة والثروة والسيادة، مشيرًا إلى أن الإخفاقات المتكررة التي يشهدها اليمن اليوم تعود في جوهرها إلى كسر هذا التوازن.
وأوضح القبلان، في قراءة سياسية–جيوسياسية، أن الجغرافيا اليمنية لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل السلطة، حيث مثّل الجبل عبر التاريخ وعاء السيادة ومصدر الحماية ومركز القرار السياسي، فيما شكّل البحر بوابة الثروة والانفتاح والاعتراف الخارجي، مؤكدًا أن أي محاولة لبناء دولة من أحد الطرفين دون الآخر تؤدي حتمًا إلى كيان هشّ وقابل للانهيار.
وأشار إلى أن التجربة الرسولية قدّمت نموذجًا مبكرًا لفهم هذه المعادلة، من خلال الفصل الوظيفي بين مركز الحكم في الداخل الجبلي الآمن، وإدارة الثروة والتجارة عبر الموانئ، وعلى رأسها عدن، معتبرًا أن هذا الفصل لم يكن ضعفًا في مركزية الدولة، بل تعبيرًا عن نضج سياسي حافظ على استقلال القرار ومنع ارتهانه للمصالح الاقتصادية.
وبيّن القبلان أن تجارب أخرى في التاريخ اليمني كشفت حدود الاختلال الجغرافي، حيث تحوّلت الدول التي انغلقت في الجبل إلى كيانات قوية عسكريًا لكنها ضعيفة اقتصاديًا، فيما أصبحت الكيانات التي بُنيت على الساحل دون عمق جبلي عرضة للتدويل وسريعة الانكسار أمام الأزمات السياسية والعسكرية.
ولفت إلى أن الأزمة اليمنية الراهنة ليست استثناءً تاريخيًا، بل إعادة إنتاج لفشل بنيوي قديم، يتمثل في الفصل بين الجبل والبحر، وبين القرار السياسي ومصادر الثروة، ما أدى إلى نشوء قوى تسيطر على مناطق أو موارد دون أن تمتلك مشروع دولة أو سيادة مكتملة.
وحذّر القبلان من الطروحات التي تتعامل مع الانقسام الجغرافي أو السياسي بوصفه حلًا، معتبرًا أن الانفصال في السياق اليمني لا يمثّل مخرجًا للأزمة، بل يعمّقها ويؤجل انفجارها، لأن الدولة الساحلية الخالصة تظل رهينة الخارج، والدولة الجبلية المنغلقة تبقى محاصرة اقتصاديًا.
وفي ما يتصل بالثروة النفطية، أوضح القبلان أن النفط في اليمن لم يتحول إلى رافعة سيادية للدولة، بل ظل موردًا منفصلًا عن منطق بناء الدولة الحديثة، بسبب تمركزه الجغرافي بعيدًا عن مراكز القرار التاريخية والموانئ الكبرى، ما جعله عامل صراع أكثر من كونه عنصر توحيد.
واختتم القبلان بالتأكيد على أن الدولة في اليمن لا يمكن استعادتها بالشعارات أو بإعادة رسم الحدود، بل بإعادة وصل ما انقطع بين الجبل والبحر والنفط، في إطار مشروع سياسي يقرأ الجغرافيا اليمنية بوعي، معتبرًا أن أي مشروع يتجاهل هذه القاعدة محكوم عليه بالهشاشة مهما بدا واقعيًا أو مدعومًا.