آخر تحديث :الثلاثاء-30 ديسمبر 2025-01:37م

ذاكرة الحرب.. قبل عام

الأربعاء - 04 مايو 2016 - الساعة 10:37 م
مريم محمد

بقلم: مريم محمد
- ارشيف الكاتب


بعد أيامٍ قليلةٍ جداً ستحل علينا الذكرى الأولى لأبشع جريمة بحق الإنسانية في العاصمة عدن ، إنها جريمة ومجزرة التواهي.

 

بهذه الأيام نتذكر المآسي التي كنا نعيشها قبل عام، نتذكر القصف، نتذكر الحصار، نتذكر الشهداء، نتذكر الجرحى، نتذكر الظلام، نتذكر طريق النزوح المحفوف بالمخاطر، ونتذكر لحظات الموت التي عشناها مراتٍ عديدة ونحن صامدون، باقون، ومتشبثون بتراب هذا الوطن الغالي وهذه الحبيبة عدن.

 

قبل عام أتذكر وأنا أشاهد مدينتي وهي تخلو رويداً رويداً من السكان، أتذكر أفواج النازحين وهم يكتضون في المواني بانتظار القوارب التي تحمل أرواحهم إلى مرسى الأمان، أتذكر ساعات الظلام الطويلة التي كنا نعيشها دون أي من أساسيات الحياة، أتذكر القصف والاشتباكات المتواصلة والعنيفة في كل الجبهات، أتذكر تكبيرات المساجد وهي تنادي وتدعوا للجهاد ، تلك التكبيرات التي تقشعر لها الأجساد وتدفع بالشباب والأطفال والشيوخ صوب جبهات القتال للدفاع عن أرضهم، أتذكر وأتذكر وأتذكر كثيراً، وكيف لي أن أنسى أسوء مرحلة عشتها في حياتي، كيف لي أن أنسى أقسى تجربة مررت بها، كيف لي أن أنسى الألم، الخوف، المرض، وانكسار القلب ووجعه، كيف لي أن أنسى تلك الطعنات المؤلمة التي اخترقت قلبي وتركته ينزف أشهر طويلة تجرعت خلالها الويلات، وتمنيت فيها الموت آلاف المرات.. لا، لن أنسى!

 

لن أنسى 6/ مايو ، التاريخ الأسود في حياتي، لن أنساه ما حييت، ذلك اليوم الذي فوضنا فيه أمرنا إلى الله، وتركنا منازلنا وأهلنا خلفنا وغادرنا المدينة، ذلك اليوم الذي ودعنا فيه والدينا بقبلات صامتة، ونفوس مكلومة، وأعين تصرخ بشلالات من الدموع الغزيرة، وقلوب تئن فتُخرس بأنينها كل أصوات القصف والضجيج الذي خلقته تلك الحرب اللعينة.. ذلك اليوم الذي هممنا فيه بالنزوح من المدينة فاتجهنا إلى رصيف المواني علّنا ننجوا بأرواحنا من قذائف وصواريخ الموت الموجهة صوبنا، لنجد أن الرصيف مكتظ بالنازحين الذين تقرأ في وجوههم ما يخفونه من ألم عميق بداخلهم، في انتظار لأول قارب يأتي ليقلهم بدفعات إلى مدينة البريقة.

 

كم كانت تلك الرحلة قاسية وأن أحادث نفسي وأؤنبها كيف قبلتي فراق مدينتك؟! لمّ تركتيها تواجه مصيرها بنفسها؟! ألم تعاهديها مراراً أنكِ لن تتركيها مهما صار؟؟! لماذا أخلفتي وعدكِ معها؟! ومع كل سؤال أشعر بطعنة عميقة في قلبي، وتظهر آثار هذه الطعنة في وجهي وفي عيناي التي أحمرٌت من شدة البكاء والقهر الذي كنت أعيشه يومها..

 

غادرنا المدينة ووصلنا إلى ميناء البريقة ليصل إلينا خبر سقط على قلوبنا علينا كالصاعقة، إنه أسوء خبر وصلني في حياتي.. خبر اغتيال الشهيد علي ناصر هادي وسقوط مدينة التواهي!! يا الله ، ماهذا البلاء الذي حل علينا، يا الله كن مع أهلنا في التواهي ، يا الله هوّن علينا من هول ما أصابنا..

 

دقائق وصلنا فيها إلى مدينة الممدارة تلك المنطقة المقطوعة عن العالم، فلا انترنت ولا تلفاز ولا شبكات اتصال ولا أي شيء يربطنا بذلك العالم الذي كنا نعيشه كل يوم .. زادت حالتنا النفسية سوءاً بإنقطاع تواصلنا بأسرتنا في التواهي، فأخذ كل شخص منا جواله محاولين التواصل بهم حينها حتى تمكنا بالصدفة من الاتصال بهم، بل الاتصال بمدينة التواهي التي سمعتها حينها تئن من القذائف التي تخترق جسدها الطاهر، سمعتها وسمعت أمي وهي تحمد الله إنني خرجت ولم أعش تلك اللحظات المأساوية التي عاشوها لأنني كنت أدعو ربي دوماً أن يُكتب لي الموت ولا أرى مدينتي تُقصف وتتدمر على يد تلك القوات المعتدية..

 

كان هذا الحديث ونحن لانعلم أن تلك القذائف كانت تتساقط على رؤوس النازحين وهم في رصيف المواني وفي القوارب وسط البحر.. انقطع الاتصال بالتواهي وغبنا تماماً عن العالم، حتى ظن كل من يعرفنا ويعرف أننا كنا نازحين بذلك اليوم وعبر البحر أننا كنا من ضمن ضحايا المجزرة البشعة التي أُرتكبت بحق المدنيين! حتى أن بعض الأصدقاء ذهب إلى المستشفيات يبحث عن أسماءنا ضمن الشهداء والجرحى بعد محاولاتهم البائسة في التواصل معنا وانقطاع شبكات الاتصال في المنطقة التي نزحنا إليها! يالها من أيام عصيبة جداً جداً!

 

انتظرنا حتى اليوم التالي لتصلنا بعض صور المجزرة، وتصلنا أخبار الموت من التواهي ومن ماتوا من جيراننا وإهل مدينتنا التي أصبحت منكوبة يومها والقوات المعتدية تحتفل وترقص على جثتها وهي تستمع بمكبرات الصوت لأناشيد النصر وتلك الأصوات المزعجة التي نشعر بالقهر الشديد ونحن نسمعها في مدينتنا الخاوية على عروشها!

 

كانت ذكريات جداً مؤلمة، كُتبت في صفحات التاريخ بأحرف من دم، لن ننساها وسنظل نذكرها ونحكيها لكل الأجيال ونحكي عن كل الجرائم التي ارتكبتها قوات الإحتلال بحقنا في #الجنوب، ولن نسامحهم عليها ماحيينا.