آخر تحديث :الأربعاء-03 سبتمبر 2025-12:09ص

لم اعد اقوى على البكاء 

الإثنين - 14 فبراير 2022 - الساعة 09:52 ص
محمد الفاطمي

بقلم: محمد الفاطمي
- ارشيف الكاتب


كانت أول مرة تعرفت فيها على الدكتور محمد الشقاع في مدينة جرايفسفالد في شمال ألمانيا قريب من بحر البلطيق، حيث كنت حينها ادرس في جامعة جرايفسفالد في مستوى ثالث في كلية الصيدلة عندما بدأ هو الدراسة في نفس الجامعة قادما ًمن عدن. فقد كان هو من الطلاب العشرة الأوائل في القسم العلمي في الثانوية العامة عام 1981. لذا التحق بالدراسة في ألمانيا في مجال الصيدلة حيث عمل الماجستير في الكيمياء الصيدلانية. وقد كان بإمكانه أن يبقى في ألمانيا حيث انتهت دراسته مع اضطراب الأوضاع في ألمانيا أواخر الثمانينات وتخفيف القيود على الطلاب الأجانب الدارسين فيها ومساعدة من يريد البقاء في ألمانيا. لكنه فعل كما فعلنا قبله فعاد الى بلاد كان يحلم انها سوف تكون ذات يوم وطناً للانسان العربي. وبعد معاناة طويلة في العمل في بلاد البؤساء تمكن من العودة لمواصلة التعليم العالي حيث عمل الدكتوراة في مجال الصيدلة السريرية في ماليزيا. ومرة اخرى عاد وبه شغف شديد للعمل والبحث العلمي والتعليم الصيدلاني في البلاد حيث كان لايزال  يحلم في خلق وطن يساهم في وجوده. 

 

كان يتمنى أن تُعطَى له فرصة طويلة في الحياة ليعطي كثيرا من العلم والمعرفة في مجال الدواء وعلم الصيدلة. لكنه طوال ثلاثة عقود وجد نفسه يحارب طواحين الهواء في بلاد البؤساء.

 

كان يود أن يحب الناس جميعا وأن يبادلوه المحبة دوما وكان يزرع الابتسامة في الوجوه رغم ألم الجسد. كان قلبه لا يقوى على الهجر والخذلان. كان عقله يستطيع أن يتحمل وقائع الحياة الدرامية لكن جسده كان يخذله.

 

كان يود أن يقول شعراً أجمل مما قاله سابقاً، لكنه حين بدأ كان الشعر قد مات في قلوب البؤساء.. فاحتار قلبه بشعرٍ كثيف المشاعر يتأهب للانفجار.

 

كان يتمنى أن يكتب، ذات يوم، كتاباً اروع مما كتبه حتى الآن، لكنه حين وجد الطريق الى الكتابة المتدفقة وجد الناس تكره أو لا ترغب في القراءة...... تائهةً في زمن الضياع. 

 

كان يحلم أن يزرع علماً في عقول الطلاب لكنه كان يرى طلاب شهادات لا يقرأون أي كتاب... ومع ذلك كان يصبر على تعليمهم حروف الكتابة فهم ضحية فساد وانهيار التعليم الأساسي الابتدائي. فكان يشفق عليهم ويحاول انقاذهم من الضياع.

 

منذ اتى صيدلياً من بلاد الألمان ثم دكتوراً من ماليزيا كان يحلم أن يصنع نهضة في عالم الدواء في البلاد. لكن طغاة السلطة ولوبي الادوية لم تعطه الفرصة قط، فجرفه زمن الاضطراب طوال ثلاثين عام.

 

 كان يحلم أن ينهض بالتعليم في كلية الصيدلة ويشعل النور فيها ويرفع على اسوار الجامعة راية البحث العلمي عالياً، لكن قراصنة التعليم في الجامعة والكلية لم يعطوه فرصة قط، فاقصوه ونفوه ولم يعطوه أي اهتمام أو اعتبار. كانوا يخافون من العلم والعلماء حتى لا تضطرب خلاياهم اللوبية والعنصرية والمناطقية والمافاوية التي تسيطر على الكلية والجامعة كمصدر للثراء وجني الارباح والاموال على حساب العلم والتعليم.

 

قبل أشهر من وفاته اعطوه منصب نائب لشئون الدراسات العليا والبحث العلمي في الكلية  بشكل صوري دون أن يوفروا شيئا للبحث العلمي. فلا يوجد أي دعم للبحث العلمي في الجامعة على الاطلاق منذ ثلاثين عاما وخاصة بعد الحرب. ومع ذلك لم ينفذوا أو يحققوا اويتجاوبوا مع ما يعمله أو يريده من أهداف وخطط متواضعة للتطوير. وفوق ذلك كان هناك في الكلية من لا يعترف به كنائب للبحث العلمي.. وشعر أنهم يتعاملون معه في إقصاء متعمد وبلامبالاة..ويتجاهلون ما يريده. وينفذون ما يريدونه.

 

كان الدكتور الانسان الكبير محمد الشقاع يشعر بغربة قاهرة وإقصاء متعمد مثلما يحدث للكثير من الصادقين ممن يعمل في جامعة البؤساء، لكن قلبه المفعم بالمحبة والشاعرية والإنسانية كان يتألم اكثر..يتلاشى أكثر.. رغم قدرته على الابتسام الدائم.

 

وداعا صديقي القدير..

 

اوجعني رحيلك المفاجئ..

 

لم اعد اقوى على البكاء..

 

لكني لم استطع ان امنع نود الحزن العاصف عن قلبي.

 

ستبقى خالدا في بلاط العلم حيث يوجد اسمك الى الابد كمرجع في ارقى سجلات الأبحاث العالمية..وسوف يتلاشى جحافل الطغاة وقراصنة التعليم والعلم ذات يوم تحت التراب وينساهم الناس في طرفة عين.