آخر تحديث :الأربعاء-02 يوليو 2025-01:19ص

التعليم وصراع الأمهات

الإثنين - 18 ديسمبر 2023 - الساعة 02:35 م
عبدالعزيز علي باحشوان

بقلم: عبدالعزيز علي باحشوان
- ارشيف الكاتب


ما إن تعلن إدارة المدرسة عن جدول الاختبارات أو جدول الامتحانات حتى تعلن بعض الأمهات في البيت حالة الطوارئ وتستنفر كل قواها وطاقاتها لتخوض معركة( المذاكرة) وكم تعاني البيوت من حالة الطوارئ هذه فهي تحول البيت إلى معسكر يكون فيه أول من يشعر بالضغط والقلق والمعاناة هما الأم والتلميذ، فتلغي الأم جميع مواعيدها وبرامجها وتؤجل تنظيف البيت وتخفف من الاهتمام بشؤون حياتها وتربط الأحزمة فتعقص شعرها وتشمر عن ساعديها وتشرع في معركتها مع ابنها ومع المدرسات أو المدرسين ومع المقررات ومع الذي سيدخل والذي لن يدخل في الامتحان ومع تفاصيل في بعض التدريبات والمقررات وتغصب ابنها على البقاء في البيت وترك كل أنواع الترفيه لكي تجرعه المقررات كما يتجرع المريض مرارة الدواء ولكي تحشي دماغة بكم من المعلومات حشوا شديداً كي يتقيأ كل ذلك في ورقة الامتحان حيث ينتهي دور الحشو.
الأم هنا تعيش فترة من التشنج والتحفز والاحتقان فهي تخوض معركة مع أمهات مثلها يعشن نفس الظروف وهن أمهات الطلاب المنافسين لولدها في فصله، فهي معركة عض الاضراس وعض الأصابع، وكم تسبب هذه ( الحالة التعليمية) من مشاكل في البيوت وبين الجارات وبين الأهل وكم تسبب من إشكالات مع الإدارات والمدرسين، فضلا عن الآثار النفسية للطالب وللأم نفسها.
وربما تأتي الأم بمعلمة متخصصة تقوم بتجهيز ولدها لخوض معركة الامتحانات.
يذهب الطالب المسكين إلى الامتحان بقلب واجف وأصابع مرتعشة وأم تنتظر عودته عند الباب وهي تأكل أظفارها وتعد الساعات لعودته كي تحقق معه عن مستوى إجابته عن الأسئلة.
وفي نهاية المطاف تكون ثمرات هذه المعارك هي أرقام في السجل تسمى ( درجات) .
وهكذا انحرفت غاية التعليم من اكتساب المعارف والمهارات وتكون الاتجاهات إلى ( جمع الدرجات) وانحصر دور العملية التعليمية برمتها وبكل ما تسخر لها الدولة من إمكانيات إلى ( هكبة درجات) تنتصر فيها أم فلان على أم فلان بغض النظر عن الحصيلة المعرفية.
أنا كمعلم تنقل في كل المراحل التعليمية من خلال تجربتي مع هذه الظاهرة ومراقبتي للترقي المعرفي للطلاب أرى أن هذه الظاهرة أضرت بالعملية التعليمية وصنعت من الطالب كائن تائه مضطرب لا يعبر ترتيبه في النتيجة عن مستواه العلمي ألبتة بل إنه يعبر غالبا عن كمية الضغط والحشو وعن درجة حالة الطوارئ في بيته، ولقد لاحظت أن منهجية الحشو والطوارئ قد تفيد الطالب في رفع عدد درجاته في مستويات التعليم الدنيا التي قد يفيد فيها الحشو إلى درجة كبيرة ولكنه مع تنقله في المراحل لا ينفع معه الحشو فيبقى معه مستواه العلمي والعقلي الطبيعي الذي يضعه في مستواه الحقيقي ولكن تبقى معه ندوب وآثار مرحلة سنين من الطواريء التي تترك في نفسيته وعقليته آثار سلبية تؤدي احيانا إلى كراهية التعليم بل وكراهية الأعمال الجادة والعجز عن مواجهة الأمور برضا، وهناك من وصل إلى الصف السابع أو إلى أول ثانوي وعجز عن مواكبة التطورات في المناهج ووجد أن الحل هو مغادرة المدرسة وترك التعليم بالكلية.
وهذا يذكرني بقصة الدكتور المسيري مع زوجته التي كانت تمارس مع ابنتها حالة الطوارئ تلك فقال حينها كلمة معبرة عن واقع التعليم ( إن مدارستنا لا تعلم الطالب سوى مهارة النجاح في الامتحان).
وصدق المسيري لأن المدارس كثيرا ما تتماهى مع أولياء الأمور وضغطهم الشديد وتحول العملية التعليمية إلى ماراثون امتحانات فقط فتسير الدراسة والمناهج وصيغة الامتحان وفق متطلبات حالة الطوارئ تلك، فانحرفت غاية التعليم للمرة الثانية هنا.
أنا لست ضد اهتمام الأهل والبيوت بدراسة أبنائهم ومتابعتهم في تعليمهم ومدارسهم ولكني ضد أن تتجه جهود أولياء الأمور إلى منهجية مختلفة تماما عن مقاصد التعليم وغاياته.
ومن واقع الحياة أرى أن كثيرا من الطلاب الذين كانوا يحصلون على مستويات متوسطة من الدرجات في الابتدائية أراهم ينبغون في الثانوية أو في الجامعة أو في حياتهم العلمية والعملية عموما.
ولهذا أرى أن تتدارس المؤسسات التعليمية إمكانية إلغاء الاختبارات والامتحانات والترتيب وإعلان النتائج في الصفوف من أول إلى رابع ابتدائي، وهذا سيمنح الطلاب التوجه بقوة نحو المعرفة والتعلم والمهارات والتنمية النفسية بعيدا عن (معركة الدرجات) وفي هذه المرحلة سيبنى الطفل نفسيا ومعرفيا ويشعر بسعادة بالغة بمنهجية هادئة محفزة متوهجة وجميلة ومن جانب آخر تستريح الأمهات من معاركهن وقلقهن وتشنجاتهن وقسوتهن على أطفالهن.
إن استمرار التعليم بهذه الطريقة يؤدي حتما إلى المخرجات التي نراها في واقعنا اليومي والتي لا تبشر بخير على مستقبلنا العلمي والنفسي.
فيا أيتها الأمهات
رفقا رفقا بأبنائكن فهم رأس مالكن ومشروع حياتكن فلا تسعين إلى تبديده وتدميره في مراحله الأولى.
ورفقا رفقا بأنفسكن من معارك الدرجات التي تجلت عند كثير من الأمهات في أمراض المعدة والقولون والضغط والسكر.

وأخيرا
أذكر أن علماء التربية والتعليم في العالم كله يؤكدون أن للتعليم ثلاثة أهداف ليس منها جمع الدرجات بل الامتحانات ليست سوى وسيلة لتحقيق تلك الأهداف الثلاثة، وعندما تتحول الدرجات إلى غاية التعليم وهدفه فهذا هو الخراب بعينه.
أهداف التعليم الثلاثة هي 
١ ) اكتساب معارف
٢) اكتساب مهارات
٣) اكتساب اتجاهات

والله من وراء القصد 
.