آخر تحديث :الجمعة-09 مايو 2025-10:33ص

(المرق) ميسما ثقافيا

الخميس - 30 مايو 2024 - الساعة 04:52 م
د.عبده يحيى الدباني

بقلم: د.عبده يحيى الدباني
- ارشيف الكاتب




أكتب هذا المقال عن المرق وهي الماء الحار الذي يطبخ فيه اللحم انها خلاصة اللحم والكلمة فصيحة وهي من مرق يمرق مرقا أو مروقا بمعنى خروج شيء من شيء آخر فالمرق تخرج من اللحم في حالة طبخه في الماء .
هذا المقال ليس عن مكونات المرق ولا عن فوائدها المختلفة ولكن الحديث عن المرق هنا بوصفها علامة ثقافية شعبية أو ميسما ثقافيا كما ذكرنا في العنوان والميسم هو العلامة .
هذا الشراب الحار شائع في كل أنحاء بلادنا مع الفرق من منطقه إلى اخرى في مسالة علاقة الناس بهذا المشروب الدسم اي مدى تعلقهم به وديمومتهم عليه .
فلاشك أن الأشياء التي يتعامل معها الإنسان من أكل وشرب وملبس ومسكن تكتسب مع الايام دلالات ثقافية وعاطفيه لا تخضع لمسالة النفع والمضرة فحسب، فهم عندما يختارون مأكولاتهم غالباً لاينظرون إلى مسألة الفائدة الغذائية منها أو إلى مضرة بعضها على بعض منهم ولكن المأكولات تكاد تكون مسألة ثقافية كرستها التربية والعادة في هذا المجتمع أو ذاك .
من هنا فإن المرق لها هذه الدلالة الثقافية ونجد أنها قد دخلت في الأمثال الشعبية واكتسبت قيمتها العاطفية الحميمية.
اتذكر عندما سافرت إلى العراق للدراسة في جامعة الموصل في شمال العراق عام 2000 م اشتقت للمرق كثيراً ولعل ذلك شوق عاطفي وليس شوقاً حسياً ،فقد كان بامكاني أن أتناول لحما طازجاً
فهو متوفر وقد يغني عن المرق،
لقد كانت المرق هناك غير موجودة وعندما سألت عنها في المطاعم اروني الادام الذي نسميه نحن الخصار.
فهذه الرغبة في المرق كانت شوقا وحنينا إلى الوطن .
وفي يوم ولجت أحد الأماكن التي تبيع سندوتشات الفلافل فوجدتهم يسكبون المرق في كاسات، فقلت هذي ضالتي فاخيرا وجدتها، فكيف تقولون ليس لديكم مرق ؟ فقالوا هذه ليست مرقة ولكنها (سوب)فقلت سموها سوبا أو حتى سبوبا فانها مبتغاي وشرابي المفضل، فشربت منها ما شربت ولعلي رويت نفسي وحنيني منها أكثر مما رويت بطني ،فنحن قوم مراقة على غرار ماقال الشاعر حسين المحضار ( نحن قوم رزازة ) يقصد بها أهلنا في حضرموت لأن الرز عندهم وجبة رئيسية لا غنى لهم عنها ، ولكنهم أيضا يحبون المرق رغم تنوع طبخات اللحم عندهم .
لقد وصلت المرق إلى الأمثال الشعبية الثقافية وهذا يدل على أنها علامة ثقافية فهناك المثل الشائع في كل مكان في بلادنا الذي يقول:
( يا مقسم المرق أهل بيتك أحق)
على مافيه من سجع وإيجاز ، لأن المرق من أكثر المشروبات التي توزع أو تقسم على الجيران وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .
وهناك مثل آخر مشهور لدينا في حالمين وردفان ولعله كذالك في يافع والضالع يقول :
( من تفاسل بالشركة تحاسب بالمرق) أي الذي يتهاون فلايختار لحماً جيداً أو أنه يأخذ لحماً قليلاً فنتيجة ذلك ستظهر في المرق فهي ستكون اما قليلة أو غير جيدة وهذا المثل يضرب في مقامات أخرى متعددة ومتشابهة.
وهناك مثل آخر أكثر شيوعا وهو :
( من فاته اللحم ما فاتته المرق)
وفي القرية نقول ( مرق ربح ولا عسل جبح ) هذا المثل يقال في وقت معين من العام حين تشتد البرد وتكون جافة
فيكون الناس أكثر حاجة إلى أي غذاء أو مشروب دسم .
ومن الامثال أيضا : ( عين باللحمة وعين بالمرق) وقالوا أيضا ( أول المرق واخر القهوة) أي أن أفضل ما في المرق أولها وأفضل ما في القهوة آخرها.
وهكذا تعد المرق علامة ثقافية ولها قيمة عاطفية ونفسية في حياتنا .