لقد بات واضحًا أن جرح اليمن العميق لا يقتصر على ندوب الحرب وآثارها المدمرة، بل يتفاقم بفعل معضلة أخرى لا تقل خطورة: إدارة مرحلة ما بعد النزاع. صحيح أن الحرب قد فتكت بالبلاد وأنهكت شعبها، إلا أن ثمة داءً آخر استشرى في جسد الدولة في المناطقة المحررة والمجتمع، ألا وهو الفساد الإداري المستشري الذي بات أشبه بعُرفٍ سائد، يستعصي على الإنكار إلا من قلة قليلة وهم الفاسدين أنفسهم.
لقد انحرف مسار الإدارة العامة في اليمن عن وظيفتها الأساسية كأداة لتنظيم حياة الناس وتيسير شؤونهم. وتحولت في كثير من المواقع إلى عبء ثقيل على كاهل المواطن، ومصدر للضيق والقلق بدلًا من الراحة والأمان. وأصبحت وسيلة ممنهجة لإذلال الفقراء وإثراء الفاسدين الذين يستغلون مواقعهم لتحقيق مكاسب شخصية.
تتواتر الأخبار عن مبادرات لإعادة الإعمار، وبرامج طموحة للتنمية، وتدفق للأموال هنا وهناك، لكن المواطن اليمني لا يرى أثرًا ملموسًا لهذه الجهود على أرض الواقع. والسبب يكمن في الإدارة المترهلة التي أدارت وكانت المسؤولة، والتي في الحقيقة كان يفترض بها أن تكون الذراع التنفيذية، والعين الرقيبة، والسلطة المحاسبة. لكنها تحولت إلى هيكل بيروقراطي متورم بالمجاملات والمحسوبيات، وصرف للمال العام دون معرفة في ماذا يصرف ولهذا نجدها تعاني من جهل مؤسسي مُقعِد، مما يعيق أي تقدم حقيقي، .
إن المرحلة الراهنة إذا أردنا الخروج من الإنحدار الذي تذهب إليه البلاد يوما بعد أخر، أن نعمل على إعادة هيكلة جذرية للإدارة العامة في اليمن. لأنه لم يعد مقبولًا التعامل مع المناصب العامة كغنيمة حرب تُقتسم بين المسؤولين، بل يجب النظر إليها كمواقع خدمة تتطلب كفاءة عالية ونزاهة مُطلقة وعقلًا استراتيجيًا قادرًا على استيعاب حساسية المرحلة ومتطلباتها. ويجب أن نؤمن إيمانًا راسخًا بأن نهضة اليمن لن تتحقق إلا على أكتاف رجال دولة حقيقيين، يضعون مصلحة الوطن فوق أي اعتبار شخصي أو فئوي، وإلا لن يحدث أي فارق في كل تغيير يحصل.
فالمرحلة تفرض علينا إعادة تعريف مفهوم القيادة الإدارية في اليمن. بحيث يجب أن نستبدل منطق الولاء الشخصي الضيق بمعايير الكفاءة المهنية والتخصص. لقد نفد صبر المواطن والوقت لم يعد يسمح لنا بخوض المزيد من التجارب الفاشلة. نحن بحاجة إلى إدارة تعمل بضمير وطني حي، تشبه طبيبًا ماهرًا ومخلصًا، لا يكترث لمظهر المريض أو وضعه الاجتماعي، بل يسعى بكل ما أوتي من قوة لإنقاذ حياته، حتى وإن استدعى الأمر استخدام أقسى أنواع العلاج.
اليمن اليوم أشبه بجسد نحيل يعاني من أمراض مزمنة ومتعددة. وليس أمامنا خيار سوى أن نتحلى بالشجاعة الكافية لمواجهة هذا الداء المستشري بكل صرامة وحزم، قبل أن يستفحل ويتحول إلى موت سريري لا رجعة منه.
لقد دفع الشعب اليمني ثمنًا باهظًا من عمر الوطن، ومن أرواح أبنائه، ومن أحلام شبابه. وقد آن الأوان للاعتراف بحقيقة دامغة: لا يمكن لأي مشروع وطني مهما كان نبيلًا أن ينجح ما لم نُصلح جذور الإدارة الفاسدة، ونزرع في مؤسساتنا ضميرًا مهنيًا حيًا، وفكرًا مؤسسيًا راسخًا، وإيمانًا حقيقيًا بأن اليمن يستحق الأفضل، وأن شعبه يستحق إدارة كفؤة ونزيهة تخدمه وتحقق تطلعاته.
المراجع:
١. عبدالحميد أبو أنعم، الإدارة العامة، جامعة القاهرة، مصر، ٢٠١٧م.
٢. بي.غاي بيترز، جون بيير، الإدارة العامة القادمة، مركز البحوث والدراسات، السعودية، ٢٠١٩م.
٣. فايز حسن، سيكولوجيا الإدارة العامة، دارس اسامة للنشر، الأردن، ٢٠٠٨م.