ليست كل الأشجار سواء بعضها ينبت ليعيش وبعضها ينبت ليُحيي وشجرة الغريب لم تكن مجرد جذع ممدود في الأرض ولا ظلًا عابرا تلوكه الشمس وتتركه للريح كانت قلبا نابضا في صمت المكان روحًا تتنفس مع كل صباح وتبكي مع كل مساء يمر دون أن يعود إليه أولئك الذين وعدوا يوما بالبقاء.
كانت تتوسط المكان كأمّ تحتضن أبناءها لا تغفو خشية أن يحتاجها أحد ولا تئن إلا حين يتسلل الخذلان إلى أركان الذاكرة لم تكن مجرد شجرة كانت أمّا كانت صديقة كانت رفيقة درب لكل عابر شعر يوما بأنه ينتمي لظلّها ولكل وحيد وضع رأسه على جذعها وشكا للغصون وجعه.
في أوراقها حكايات بعضها كُتب بالدموع وبعضها بالضحكات التي خبأها الزمن في تجاويف الذاكرة كانت تهمس لمن يقترب منها لا بالكلام بل برائحة التراب المبلّل بالود بصوت الريح الذي يعزف على أوراقها أنشودة العودة بشعور الأمان الذي يُسكنك حين تلمسها.
كل من جلس تحت ظلّها ترك فيها شيئا منه تنهيدة دمعة وعدا وربما خيانة لكنها لم تكن لتفضح أحدا بل كانت تحفظ كل شيء بصبر الأنبياء كانت تستر الضعف وتغفر النسيان وتصمت حين يصخب الآخرون بأكاذيبهم لكنها لم تسقط يوما عن ضعف بل وقفت شامخة كأنها مئذنة في قلب قرية منسية تؤذن كل فجر بنداء الحنين وتهتف في الغروب بأن الأصل لا يموت وإن سقطت الأغصان.
وحين سقطت، لم يكن ذلك ناتجا عن عجز بل كان صرخة احتجاجا صارخا على الذين مروا ونسوا على الذين تغنّوا بظلّها ثم باعوا ذكراها بثمن بخس على الذين اعتقدوا أن الأشجار لا تغضب وأن القلوب الطيبة لا تموت.
سقطت لتقول كفى كفى خذلانا سقطت لتكشف الزيف لتكشف من تنكّر للدفء حين اشتد البرد من رحل دون أن يودّع من عاد دون حياء يطلب ما تبقّى من ظلّ سقطت لتثبت أنها كانت أكثر إنسانية من البشر أنفسهم وأن وفاءها فاق وعودهم وصبرها أطول من أعمارهم وحنينها أقوى من غربتهم.
كانت ولا تزال شجرة الغريب.. لا يشبهها شيء كأنها قصيدة لم تكتب بعد أو صلاة خرجت من قلب أمّ تدعو لولدها البعيد أو حضن فقد في الزحام وظلّ يسأل عنه الوجدان كانت ذاكرة قرية وتاريخا صغيرا لم يدّونه أحد لكنها دَوّنته في أوراقها ووشمته في جذورها ونسجته في ظلّها.
اليوم حين تمر من هناك لا تراها لكنك تشعر بها وكأنها لا تزال قائمة تحرس المكان بعيون غير مرئية وتنتظر أولئك الذين لا يخونون الذين لا تغريهم حياة بلا جذور الذين يعرفون أن الشجرة ليست خشبا وأوراقا بل وطن صغير قلب دافئ وتاريخ لا ينسى.
سلام على شجرة الغريب
سلام على أوراقها المتساقطة كالعبرات
وسلام على ظلّها الذي كان وطنا
سلام على جذورها التي لا تزال تنتظر عودة الذين أوفوا
الذين إن جلسوا تحتها عرفوا أنها كانت قلبا لا شجرة
وأن كل شبر من ظلّها كان حبا لا يشترى.