*
في قول الله تبارك وتعالى " *ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنحيناه وأصحاب السفينة وجعلناه آية للعالمين*" ذُكِرت قصة نوح في هذا الموطن من سورة العنكبوت في صورة هي أشد اختصارا وإجمالا ومع ذلك الإجمال تجد إشارات تلم من خلالها بأهم تفاصيل القصة وهذا من عجيب وإعجاز القرآن فالاختصار ليس عيبا بذاته بل قد يكون في مواطن أبلغ من التفصيل كيف لا وقد رأينا أن الحذف هو أحد وجوه الإعجاز في القرآن كما ذكر ذلك الجرجاني في كتابه " دلائل الإعجاز " وإليك ما تيسر فهمه
الأول : في قوله تعالى " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " فالمُرسِل هو الله جل في علاه والرسالة أعلى التكاليف وأهمها ونوح عليه السلام أول الرسل وأول أولي العزم منهم والإشارة الثانية : في قوله تعالى " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " فإذا ضممنا الفائدة الأولى إلى الثانية فهذا يعني أنه مع عظم التكليف وجهاد الدعوة ومن رسول لم يعرف اليأس ولا الكسل - شأن المرسلين من الله - وقد قضى على هذه الحال تلك المدة الطويلة لم يفتر ولم يملّ ولم يكلّ وهو ما يجعل النفس تتشوف لمعرفة تفاصيل ما حدث في " ألف سنة إلا خمسين عاما "وهو ما قد فصلته آيات أخرى كما في قوله تعالى " ربِّ إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرار.... الآيات إلى آخر السورة" فهي تفصِّل جهاد نوح في دعوة قومه وما لاقاه من العناء والصد والعناد والتكذيب حتى أيس من إيمان قومه كما أخبر الله عنه في قوله " *إنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون* " وبعد الأياس دعا نوح على قومه كما أخبر الله تعالى عنه " *وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا* " وقد استجاب الله دعوته وهذه هي الإشارة الثالثة : في قوله تعالى " *فأخذهم الطوفان*" وهكذا ستجد النفس تتطلع لتفاصيل الطوفان التي وردت تفاصيل قصته في آيات أخرى من سور القرآن كسورة هود وغيرها من سور القرآن الكريم والإشارة الرابعة : وهي السبب الذي أخذهم الله لأجله "*وهم ظالمون*" فرأينا أنه مع الإجمال والاختصار ينص على السبب لأهمية السبب ولكونه عمدة في القصة !
وبعد ذكر هلاك قومه بالغرق لابد من ذكر نجاة نوح ومن آمن معه حتى يكتمل المشهد وتكون الصورة بيـّنة بأن أمر الله قائم على العدل كما أهلك الظالمين فإنه أنجى المؤمنين وهي الإشارة الخامسة "*فأنجيناه وأصحاب السفينة وحعلناها آية للعالمين*" وفي ذكر السفينة ما يشوق النفس لمعرفة تفاصيل هذه الوسيلة العجيبة وكيف نجى على ظهرها الذين ارتقوا من إنسان وحيوان ليحفظ بهم جنس البشر والحيوان ويبارك فيهم ويجعل السفينة آية تمد بالإيمان وبالمؤن إلى آخر الزمان
محمد العاقل