في أحد المقاهي الشعبية المتواضعة في مدينة عدن التقيت برجل خمسيني يعمل موظفاً في الإرسال الإذاعي والتلفزيوني كان يحتسي كوباً صغيراً من الشاي وعلى وجهه ملامح الشقاء والانكسار قال لي بهدوء يخفي الكثير من القهر: "راتبي 75 ألف ريال يمني "أي ما يعادل نحو 120 ريالاً سعودياً" ولا أستطيع به شراء كيس أرز لعائلتي". بهذه العبارة اختصر الموظف العدني مأساة آلاف الأسر في المدينة الذين تحولت حياتهم اليومية إلى معركة بقاء لا ترحم معركة لا تسعى للرفاهية بل لضمان الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية في ظل انهيار العملة الذي تجاوز فيه سعر صرف الدولار حاجز 2400 ريال والريال السعودي 620 ريالاً بات الراتب الشهري عاجزاً عن تغطية حتى نصف ضرورات الأسبوع .
الأسعار ترتفع بشكل جنوني فكيس الأرز يصل إلى أكثر من 90 ألف ريال وكيس الدقيق لا يقل عن 50 ألفاً بينما يتراوح سعر دبة الغاز ما بين 8 و10 آلاف ريال ناهيك عن تكاليف المواصلات والدواء والخضروات التي أصبحت كماليات .
لم تعد هذه الأزمة مرهونة بعوامل خارجية فحسب بل هي انعكاس لعجز داخلي سياسي وإداري واضح فالغياب التام للمعالجات الاقتصادية، وانعدام الرقابة على الأسواق، وتراخي المؤسسات الرسمية أمام جشع التجار، كلّها عوامل حولت معيشة المواطن إلى مأساة يومية وإن كان للموظف في المقهى حكاية فإن لسيدة خمسينية أخرى حكاية لا تقل وجعاً حين قالت: "ما قدرت أشتري الغاز، أطبخ بالحطب، والأولاد مرضوا من الدخان" وهي ليست وحدها بل هي صوت من آلاف الأصوات التي يُراد لها أن تبقى صامتة أو يائسة.
في هذه الظروف لم يعد السكوت حياداً بل صار تواطؤاً ضد المواطن ولم تعد الشعارات السياسية صالحة للتسويق أمام جوع العائلات وانطفاء الكهرباء وغياب الرعاية الطبية.
كيف يمكن الحديث عن السيادة والمستقبل بينما المواطن غارق في مستنقع البحث عن وجبة تحفظ كرامته؟ هذه ليست دعوة للتمرد بل للإنقاذ ليست صرخة عدائية بل صرخة إنسانية نابعة من وجدان المدينة وروحها عدن لا تطلب المستحيل بل تطلب من القائمين على إدارتها أن ينصتوا لصوت الجائع لا لصدى المايكروفونات فحين يعجز الموظف الحكومي عن شراء كيس من الأرز من راتبه الشهري فهذا يعني أن الخطر لم يعد اقتصادياً فقط بل تحوّل إلى أزمة أخلاق، وضياع للثقة، ومقدمة لانفجار إجتماعي لا أحد يمكنه احتواؤه إذا حدث ومن لم يسمع أنين الجائعين اليوم فسيصحو ذات يوم على صوت المدينة وهي تصرخ كاملة في وجهه تطالبه بالرحيل.