في السنوات الأخيرة، شهد اليمن تراجعا خطيرا في دور الدولة، خصوصاً في قطاعي الصحة والتعليم، وهما ركيزتان أساسيتان في بناء الإنسان عقليا وبدنيا. ففي الوقت الذي توسع فيه القطاع الخاص من مستشفيات ومستوصفات، انهار القطاع الصحي الحكومي وتدهورت خدماته، مما أجبر المواطن على التوجه للقطاع الخاص رغم تكاليفه الباهظة، حتى أصبح العلاج في اليمن حكراً على من يملك المال.
الواقع لم يكن أفضل في التعليم، حيث تراجعت مكانة المدارس الحكومية وتدهورت أوضاع المعلمين، في ظل سياسات بدا وكأنها تستهدف تقويض هذا القطاع الحيوي. ومع فقدان الثقة بالتعليم الحكومي، اتجه المواطنون إلى المدارس الخاصة رغم تكلفتها العالية، ما أثقل كاهلهم وأجبرهم على التضحية بطعامهم وتعريض أنفسهم للديون في سبيل تعليم أبنائهم.
ومع اشتداد الأزمة، وجد كثير من الأسر نفسها أمام خيار مرير: إرسال أبنائها إلى المعسكرات أو الانخراط في التشكيلات المسلحة، ليس طوعاً، بل كرهاً لضمان لقمة العيش. لقد تحولت هذه المعسكرات إلى ملاذ اقتصادي قاس للفقراء، في مشهد يعكس حجم المعاناة التي تدفع المواطن للمقايضة بأغلى ما يملك — أطفاله— مقابل البقاء.
إننا لا نعيش أزمة خصخصة فحسب، بل نعيش تراجعاً ممنهجاً لدور الدولة، مع غياب تام للمواءمة بين سياسات الخصخصة وظروف البلد. وبدلاً من إصلاح القطاعات العامة، يجري تفريغها تدريجياً لصالح بدائل تجارية لا تراعي واقع المواطن ولا قدرته الشرائية، مما جعله عالقاً بين تأمين الطعام والدواء والتعليم ...
إذا استمرت هذه السياسات على هذا النحو، فإن جيلاً كاملاً مهدد بالضياع، فاقداً لحقه في الصحة والتعليم معاً اللذان أصبحا حلما لمن استطاع إليهما سبيلا. وعلى الدولة أن تراجع أولوياتها وتعيد الاعتبار لمسؤولياتها تجاه المواطن، وإلا فإن الكارثة القادمة ستكون أخطر بكثير من مجرد فقر أو تدهور اقتصادي... إنها خسارة الوطن من الداخل.