آخر تحديث :الأربعاء-02 يوليو 2025-09:10ص

الدين والإنسان .. شراكة الوعي في صناعة النهوض الحضاري

الثلاثاء - 01 يوليو 2025 - الساعة 11:36 م
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب


مقال في الفكر السياسي والفلسفي

---


في قلب كل حضارة، وفي أصل كل بناء إنساني، تقف فكرة الدين بوصفها الجواب الكبير على سؤال الإنسان القديم المتجدد: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وإلى أين المصير؟


ليس الدين – في جوهره الأصيل – مجرد طقوس وشعائر، ولا مجرد تراث اجتماعي عابر، بل هو الرواية الكونية الكبرى التي تمنح للإنسان تفسيرًا متماسكًا للوجود، وتضعه في سياق هذا الكون الواسع، وتعطيه موقعًا ووظيفة ومعنى. ففي حين تنشغل الفلسفات الوضعية بتحليل ما هو كائن، يأتي الدين ليجيب عن لماذا كان؟ وما الغاية من الكينونة ذاتها؟.


أولًا: الإنسان كائن قَلِق.. والدين استجابة لهذا القلق


الإنسان يولد غريبًا عن العالم، يفتح عينيه في كون لا يملك مفاتيحه، ولا يفهم أسراره. هذا الغموض الوجودي يولّد قلقًا داخليًا عميقًا، لا تشاركه فيه الكائنات الأخرى، لأنه وحده من يعي الموت، ويفكر في المصير. هنا، يتدخل الدين ليقدم سردية كونية، تصوغ العالم على نحو قابل للفهم، وتمنح الحياة معنى، وتُطَمئن النفس بأن هناك غاية، وأن وراء الظواهر حكمة وعدالة قادمة، قد لا تُدرَك الآن، لكنها مؤكدة في أفق قادم.


ثانيًا: القيم والمبادئ… المعيار الأخلاقي الذي يمنح الإنسان البوصلة


الدين لا يُلقي بالإنسان في هذا الكون عاريًا من المبادئ، بل يزوّده بمنظومة قيمية، تحدد له الخير والشر، وتؤسس لضمير يتجاوز النفعية الفردية. فحين تنهار الفلسفات النسبية في عصر ما بعد الحداثة، ويغدو كل شيء قابلًا للتأويل والتبرير، يبقى الدين هو المصدر الثابت للمعيار الأخلاقي الذي لا يُشترى ولا يُصاغ على هوى السوق أو الحاكم. هنا، تتحقق الوظيفة الثانية الكبرى للدين: تثبيت الإنسان أخلاقيًا وسط سيولة العصر.


ثالثًا: الهوية الجمعية والتماسك الاجتماعي


ليس الدين تجربة فردية فحسب، بل هو أيضًا هوية جمعية، تصوغ المجتمع وفق شعائر مشتركة، ومناسبات موحدة، ورموز مقدسة تُنتج شعورًا بالانتماء. فحين نصوم رمضان معًا، أو نقف صفًا في الصلاة، لا نمارس عبادة فقط، بل نعيد إنتاج رابطة اجتماعية لا توفرها القوميات وحدها ولا الأيديولوجيات العابرة. فالدين هو الغلاف الثقافي الذي يصبغ المجتمعات، ويحفظ استقرارها في وجه التآكل الفرداني، ويصوغ الهوية الجامعة للأمة.


رابعًا: التضامن الاجتماعي في ظل غياب الدولة


حين تعجز الدولة أو تتقاعس، يبقى الدين نظامًا بديلًا للتكافل، ينظم الصدقات، ويشجع على الإيثار، ويقيم شبكات دعم مجتمعي، من الزكاة إلى الوقف، ومن الإغاثة إلى كفالة اليتيم. فالدين لا يمنح الإنسان فقط تفسيرًا، بل يمنحه أمانًا ومعونة في لحظات العجز، ويؤسس لبنية تضامن عضوي نابع من الوجدان لا من إجبار القانون.


خامسًا: القدرة على احتمال الألم والابتلاء


في عالم تتكاثر فيه الكوارث والحروب والمصائب، يمنح الدين الإنسان صمام أمان نفسي. هو ليس وعدًا بالراحة، بل وعد بالمعنى وسط الألم. من دون هذا المعنى، يغدو الألم عبثًا، والموت فناءً، والفقر لعنة. لكن حين يؤمن الإنسان أن وراء المحنة حكمة، وأن العدل مؤجل لا ملغى، يستمر في الحياة فاعلًا لا منكسرًا، معطيًا لا ناقمًا.



الدين لا يصنع المصانع… لكنه يصنع الإنسان


خطأ قاتل أن يُحمَّل الدين ما ليس من وظيفته: أن يُطالَب بوضع مخططات التنمية، أو برامج النهوض الاقتصادي، أو أن يقدّم حلولًا تقنية للتقدم العسكري أو الصناعي. فهذه – في جوهرها – وظيفة الإنسان، المستخلف في الأرض، والذي وُهِب العقل ليكتشف السنن، والعلم ليقهر الجهل، والإرادة ليصنع الحضارة.


الدين لا يُقدّم جدول أعمال تفصيليًا، بل يقدّم الإطار المعنوي والوجداني والمعرفي الذي ينطلق منه الإنسان ليمارس فعله في الكون. يمنحه الدافع، والبوصلة، و"لماذا"، بينما مهمة الإنسان أن يبتكر "كيف". الدين يحرر العقل من وهم العبث، ويشحذ الإرادة بفكرة الغاية، ويمنح الفعل بُعدًا أخلاقيًا ساميًا.


المزاوجة بين الوظيفتين: نحو مشروع حضاري متكامل


حين يُختزل الدين في الطقوس فقط، يتحول إلى عادة ميتة. وحين يُفصل الإنسان عن القيمة الدينية، يتحول إلى آلة نفعية مادية. لكن حين يتكامل الدين كإطار معنوي، مع الإنسان كفاعل عقلاني، يولد المشروع الحضاري العظيم: إنسانٌ يُدرِك معنى وجوده، ويستثمر عقله في اكتشاف السنن، ويستمد من إيمانه قوة للاستمرار في وجه العواصف.


هذا هو التكامل المقترح:


الدين يمنحنا التصور، والإنسان يُنجز الفعل.


الدين يُلهِم، والإنسان يُبدع.


الدين يُرشد، والإنسان يُخطط.


الدين يُثبّت، والإنسان يَصنع.


في الختام:

الدين ليس بديلاً عن الإنسان، ولا الإنسان بديلاً عن الدين، بل الاثنان جناحان لطائر الحضارة. فمن سعى لمعرفة مصيره من دون وحي، تاه، ومن انتظر من الدين أن يعمل نيابة عنه، خاب.

إن الجمع بين الوظيفة الإلهية في الهداية، والوظيفة الإنسانية في الاستخلاف، هو السبيل لصناعة نهضة لا تُقهر، وإنسان لا يُهزم.

نحن لا نحتاج إلى مزيد من الخطاب الديني الخامل،

بل إلى إيمان فاعل،

يُخرج من كل آية طاقة،

ومن كل قيمة مشروعًا،

ومن كل ألم رسالة.


،،،،،،،،،

✍️ عبدالعزيز الحمزة

الثلاثاء ١ يوليو ٢٠٢٥م