في لحظة سياسية مشحونة بالتوتر و الرهانات المتقاطعة يشهد الملف اليمني حراكاً سياسياً متزامناً بين الداخل والخارج، في وقت يتسم فيه المسار التفاوضي بالجمود، ما يعكس محاولات عده لإعادة رسم خريطة النفوذ وترتيب أوراق التمثيل في المرحلة المقبلة. ففي العاصمة عدن، أُستقبل المبعوث الأممي إلى اليمن "هانس غروندبرغ" تزامناً مع وصول رئيس مجلس النواب سلطان البركاني ،حيث ألتقى الأخير برئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي ، في حين يواصل اللواء عيدروس الزبيدي نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي رئيس المجلس الإنتقالي الجنوبي تحركاته في الرياض عبر لقاءات مكثفة مع عدد من سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن ، هذه المشاهد المتوازية لايمكن قراءتها بمعزل عن بعضها البعض ، بل تتكامل ضمن سياق يعكس إعادة تموضع القوى الفاعلة في معادلة التسوية السياسية القادمة ..
فزيارة المبعوث الأممي جاءت محمّلة برسائل واضحة في توقيتها ومضمونها، في ظل تعثّر المسار التفاوضي بين الحكومة الشرعية والحوثيين، وغياب أي إختراق حقيقي على مستوى التسوية الشاملة. "غروندبرغ" الذي دعا من عدن إلى "قرارات حاسمة لكسر الجمود السياسي"، بدا كمن يلوّح بأن إستمرار حالة الترقب قد تُفقد العملية السياسية زخمها، ما لم تتخذ الأطراف خطوات ملموسة ، فإختياره لعدن كمحطة لهذه الدعوة لم يكن اعتباطياً أو عشوائياً، بل يعكس قناعة أممية بضرورة تحريك أدوات الشرعية من الداخل، وإعادة تفعيل القرار السياسي من مركزه الرمزي وأن عدن بما تمثله من رمزية سياسية وإدارية قادرة على ذلك إذا ما أحسن توظيفها ، إلا أن الزيارة، ورغم زخمها، لم تشمل أطرافًا جنوبية رئيسية على الأرض، وهو ما يفتح باباً للتساؤلات حول مدى جدية الأمم المتحدة في بناء مسار تفاوضي جامع وشامل، خصوصاً في ظل المتغيرات الحاصلة في الجنوب وموازين القوى الجديدة التي أُفرزت على أرض الواقع ....
بالمقابل، حضور البركاني إلى عدن بدا كمؤشر على تحريك الجناح التقليدي للشرعية الذي طالما أرتبط بالمؤسسة السياسية اليمنية الكلاسيكية الموروثة ماقبل العام ٢٠١٥م ، ومحاولة ترميم بنيتها السياسية وربما الدفع بها نحو مركزية القرار ، في خطوة يُحتمل أن تكون مدفوعة بتفاهمات غير معلنة تهدف إلى إعادة ضبط توازنها الداخلي، وربما التمهيد لمقاربات جديدة في التسوية برعاية إقليمية ودولية على حساب ملفات شائكة كالقضية الجنوبية ...
أما الزبيدي، فيخوض مساراً تفاوضياً موازياً هو الأخر من الرياض، يؤكد من خلاله على مركزية القضية الجنوبية، ورفض إختزال التمثيل في ترتيبات شكلية أو إقصائية ، فظهوره على خط اللقاءات الدولية يمثل رسالة واضحة بأن المجلس الإنتقالي الجنوبي لم يعد مجرد مكون داخل مشهد متشظٍ فحسب ، بل طرف فاعل بموقع تفاوضي مستقل.
في المجمل، تكشف هذه التحركات عن سباق سياسي هادئ غير معلن لتحديد ملامح التمثيل السياسي القادم، وتوزيع أوزان التأثير في أي تسوية محتملة خصوصاً في ظل تصاعد التوقعات بقرب ولادة تسوية شاملة برعاية إقليمية ودولية، لاتزال رهينة ترتيبات لم تنضج بعد ، لكنها بلا شك تمضي بوتيرة متسارعة ، ومع تصاعد الحديث عن حل شامل ، فإن أي مقاربة لاتعكس الواقع الجديد ولاتنصف الأطراف الفاعلة ستظل عرضة للفشل بل و قد تعيد إنتاج الأزمة بدل حلّها.
فالتسويات التي تُبنى على إنكار الحقائق الميدانية وتهميش المكونات الجوهرية، لا تُنتج سلاماً، بل تُؤسّس لمرحلة هشّة سرعان ما تنكسر أمام تعقيدات الواقع وتقلباته.
ختاماً: فإن أي تسوية لا تضع إرادة شعب الجنوب في صلب معادلة الحل ستظل محكومة بالفشل مهما حشدت لها من رعاة وضغوط ، فالجنوب ليس هامشاً في معادلة القوة، ولا فائضاً في معادلة التفاوض، بل طرف مركزي أصيل لا يُبنى السلام إلا بشراكته، ولا تستقيم الدولة دون الإعتراف بحقه وتطلعاته المشروعة....